هل تتذكرون الضجّة الدولية الصاخبة والمزعجة حول إصلاح الأمم المتحدة وزيادة عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن؟ كانت هناك جلسات واجتماعات ومؤتمرات بلا عدد، ودبّت خلافات كثيرة حول الدول أو المجموعات الدولية التي تستحق مقاعد دائمة في مجلس الأمن، ثم أطفئت كل الأضواء وساد ظلام دامس وسكتت كل الأصوات وساد صمت مطبق. في أوج هذه الضجَّة قلت لصديقي إن من أفسدوا الأمم المتحدة ومن يستفيدون من فشلها في حل الأزمات الدولية أطلقوا دعوة إصلاحها، فهل يعقل أن المستفيد من الوضع الفاسد والسيئ يقود إصلاح هذا الوضع؟ وقد كانت صيحة إصلاح الأمم المتحدة، التي انطلقت في السنوات العشر أو الخمس الأواخر من القرن الماضي، واستمرت في العقد الأول من الألفية الجديدة، جزء من صرعة الإصلاح التي اجتاحت العالم، وأطلقتها أيضاً القوى الكبرى بالتزامن مع سيناريو الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وكالعادة تلقف العرب صرعة الإصلاح سواء إصلاح الأمم المتحدة أو إصلاح النظام العربي، أو إصلاح كل دولة على حدة، أو حتى إصلاح السيارات. وتبارى المحللون العرب الذين يبحثون عن أي جنازة ليشبعوا فيها لطماً، أو أي فرح ليشبعوا فيه رقصاً في وضع التصورات عن إصلاح الأمم المتحدة، وإصلاح النظام العربي، ثم إصلاح كل دولة على حدة. ودبّ خلاف عميق حول الإصلاح، وهل يكون من داخل كل دولة أو من خارجها. وفجأة انتهى كل شيء إلى لا شيء، «وتبين بعد فوات الأوان أن العرب من أسرع أمم العالم ابتلاعاً لأي طعم، وهم أسرع أمم العالم وقوعاً في الفخ، وأن مسألة الإصلاح كانت مجرد طعم لاصطياد العرب، حيث يتم تسليط الضوء على قضية تافهة وفرعية، أو لا قضية على الإطلاق من باب يسمى في علم البلاغة العربية الالتفات، أو على طريقة العصفور المشهورة في الفلكلور المصري، إذ يقول لك اللص: أنظر إلى هذا العصفور فوق الشجرة، وعندما تنظر يسرق نقودك، أو مثل اللص الذي ينبهك إلى خلل ما في سيارتك، وعندما تنزل منها، وتنشغل بالبحث عن الخلل يسرق ما بداخل السيارة. هكذا تم تسويق كذبة الإصلاح لننشغل بها، ونختلف حولها، ونصدقها ويتفرغ باعة الوهم والكذب لهدم دول المنطقة وتفكيكها وإعادة تركيبها على طريقتهم وهواهم، مستعينين في ذلك بالأغبياء منا الذين صدقوا كذبة الإصلاح وتربحوا منها أيضاً، واستيقظ العرب على تسونامي «الخريف»، الذي جعل عالي الأمّة سافلها، وسافلها عاليها، بينما بقيت الأمم المتحدة بلا إصلاح، وبقي النظام الدولي فاسداً وتديره الاستخبارات، ولا يديره السياسيون وازداد النظام العربي تدهوراً وانهياراً، ولم يعد هناك وجود عملي لما يسمى الأمة العربية الواحدة، ولكنه وجود نظري على الورق، وأصبح ما يفرق العرب أضعاف ما يجمعهم، بل لم يعد يجمعهم سوى اللغة التي توشك هي أيضاً على الاندثار، وترك مكانها للعاميات، التي ازداد انتشارها، وصارت لغة كتابة بعد أن كانت لغة منطوقة فقط وطغت ثقافة الميليشيات والطوائف على ثقافة الدولة الوطنية، وأصبحت الأمم المتحدة تتعامل مع ميليشيات في منطقتنا العربية، ولا تتعامل مع دول وطنية وحكومات شرعية، وتحولت قرارات المنظمة الدولية إلى حبر على ورق، لأن المنظمة الدولية تصدر قرارات مكتوبة، بينما تخالفها على الأرض فعلياً، أي أن المنظمة الدولية تقول شيئاً وتفعل ضده أو نقيضه، فهي تعاقب الميليشيات والجماعات الإرهابية والمتمردة والانقلابية على الورق، لكنها تفرض التفاوض معها على الطاولة، وتساوي بين الشرعي وغير الشرعي والوطني والخائن، وتطالب بتنازلات من الشرعي لمصلحة غير الشرعي، كما أن المنظمة الدولية أدمنت المعايير المزدوجة، والكيل بألف مكيال في هذه المنطقة من العالم، فهي تحارب إرهاباً في دولة وتتفاوض معه وتهادنه في دولة أخرى، وهي تؤكد رؤية القوى الكبرى حول عدم الجدية في مواجهة الإرهاب. والقرار الدولي غير المكتوب، الذي اتخذه ما يسمى المجتمع الدولي، وتنفذه الأمم المتحدة هو الحرب بلا نهاية والتفاوض بلا نهاية في هذه المنطقة من العالم، والتركيز المقيت والسخيف على تحويل كل القضايا العربية إلى إنسانية إغاثية لا سياسية، فالأمم المتحدة لا تكف عن التحذير من كوارث إنسانية في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، لكنها لا تحذر أبداً من الكوارث الانقلابية والإرهابية، ولا تقول مرّة واحدة من المسؤول عن هذه الكوارث. بقاء الأوضاع في الدول العربية المنكوبة على ما هي عليه هو القرار المؤكد لما يسمى المجتمع الدولي ليظل كل شيء رمادياً راقصاً على السلم.. وتظل دول «الخريف» آيلة للسقوط، لا تسقط ولا تنهض، لا تنقض ولا تقام.. ويعتاد العرب هذا الوضع الرمادي الباهت وتصبح الحروب والمفاوضات من يوميات العرب، نتقاتل نهاراً ونتفاوض ليلاً، ونتقاتل في دولة ونتفاوض في دولة أخرى، ويكون مصير ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وغيرها مثل مصير فلسطين، قضية اللاحل، فلا ندري هل هو سلام مع إسرائيل أم هو عداء أم هما معاً؟ وفي الأمّة العربية وحدها تجتمع الأضداد وتتعايش معاً ونتعايش نحن معها: الحل العسكري والحل السياسي معاً، والمحصلة هي اللاحل. الدين والإرهاب معاً. والنتيجة غروب الدين والتدين وشروق الإرهاب، الدين الذي هو غاية أصبح عندنا وسيلة. الموت والحياة معاً، والمحصلة لا نموت ولا نحيا. الدول تحارب الميليشيات الإرهابية وتتحالف مع ميليشيات إرهابية أخرى لمحاربة الأولى، كما يحدث في العراق، والمحصلة أن إرهاباً يركب وإرهاباً ينزل، وأن إرهاباً يحل محل إرهاب. الشرعي وغير الشرعي يتفاوضان في الكويت، غير الشرعي يريد الشرعنة، وتتحقق له الشرعنة باعتراف دولي من خلال جلوسه مع الشرعي على الطاولة والاعتراف به طرفاً في المعادلة اليمنية، فهل كان لا بد من أنهار الدماء وانهيار دولة بأكملها لنصل إلى نفس النتيجة، وهي شرعنة غير الشرعي؟ والمشاورات التي تجري في الكويت سيدخل بها اليمنيون بالتأكيد موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأطول جولة مفاوضات واحدة في التاريخ. والمشاورات اليمنية بالكويت مثل كل شيء في أمّة العرب نعرف متى يبدأ، لكننا لا نعرف متى ينتهي. وربما تكون الطاولة اليمنية والطاولة السورية والطاولة العراقية والطاولة الليبية مثل الطاولة الفلسطينية تتعاقب عليها أجيال من المفاوضين. يموت مفاوضون، ويولد مفاوضون، وتبقى الأزمة والطاولة، مثل مريض ميؤوس من شفائه ويتمدد على الطاولة ويتعاقب عليه الأطباء. ويموت أطباء ويولد أطباء، والمريض كما هو لا يموت ولا يحيا. وكل هذا العبث العربي مرده إلى أن العرب لا يعرفون سبباً لاقتتالهم ولا سبباً لتفاوضهم، والمأساة أن الناس في هذه الأمّة هم وقود الحروب وضحايا المفاوضات، وأن قادة الحروب وزعماء التفاوض ولا يمسهم سوء، بل إن قادة الحرب والدمار في سوريا مثلاً، والذين نسميهم المعارضة يقودون المحرقة من الخارج. وكل شيء في هذه الأمّة ينتهي إلى لا شيء! *كاتب صحفي
مشاركة :