البنات لا يتسحّرْن | لمياء باعشن

  • 6/15/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

بعد منتصف الليل من رمضان جدَّاوي قديم، يُقبل عم يحيى من بعيد، ودقَّات طبلته تسبقه، تملأ الأزقَّة الضيِّقة أصداء عالية: مهمَّة عم يحيى حلنقي المُسحِّر أنْ يوقظَ النائمين لتناول وجبة السحور قبل حلول وقت الإمساك، لكنَّنا كنَّا في زمن السهر، ننتظره مستيقظين كطقس تراثي جميل، ثم نهرع إلى النوافذ نشاهده وهو يقف عند كل باب، ونتلهّف لوقفته عند بيتنا. كان يقول كلامًا كثيرًا، وهو يتنقل من باب لباب، أدعية وتراحيب وتسابيح، لكنَّ إصغاءنا كان يشتدُّ باهتمام حين يتغنَّى بأسماء أهل كل بيت. في نهاية شعبان كان المُسحِّر يسأل العوائل التي يدور عليها عن أيِّ إضافات لقائمة الأسماء: فالكلُّ يجب أن يُذكر بالاسم حتى المواليد الجدد، نعم، الكل، لكن من الذكور فقط. في تلك الليلة التي سهرنا فيها مع برامج التلفزيون حتى وقت متأخِّر، سمعنا صوت الطبلة يتردَّد في أنحاء الحارة، فأسرعنا إلى النوافذ نتدلَّى منها متلهفين لرؤية المسحِّر والأطفال يحومون من حوله، وهو يردِّد ترانيمه الترحيبيَّة بشهر رمضان. كنّا طفلات نراقب الحدث الذكوري من الأعلى: رجل يُسحِّر الرجال بصيغ لا تذكر النساء: «السحور، السحور يا عباد الله.. قوم يا نايم اكسب الغنايم.. قوم اذكر الحي الدايم..». عندما وقف تحت باب بيتنا بدأ يردّد أسماء الرجال والأبناء من عائلتنا، ابتداءً من جدّي حتى أخي المولود: «الشيخ مشهور مسّاكَ الله بالرضا والنعيم.. محمد صالح مسّاكَ الله بالرضا والنعيم.. هاني أفندي مسّاكَ الله بالرضا والنعيم.. وتوالت أسماء الذكور كبارًا وصغارًا حتَّى أحسستُ بغصَّة، وتمنيتُ. كم تمنيت لو ذكرَ اسمي من بينهم. كل ليلة من ليالي ذلك الرمضان كنَّا نتدلَّى من النوافذ، ونسمع القائمة تترا، ونصرخ أحيانًا في نهاية التسحير مطالبات عم يحيى أن يذكر أسماءنا، فيُهملنا، ويتجاهل صراخنا، أو يقول حاسمًا وهو يغادر: ما أسحِّر بنات. كنَّا صغيرات، وكان الحنق أكبر منَّا، لكنَّنا شعرنا بالتفرقة، وحرقتنا تساؤلاتنا بـ(إشمعنى). في نهاية الشهر كنَّا قد استنفدنا كل حيلنا لنثني عم يحيى عن قراره الحاسم، حتَّى أنَّ جدَّي حنَّ في حالي ذات مرَّة، وقد كنتُ قد بدأت في البكاء بحرقة، وطلب من عم يحيى أن يسحِّرني، لكنَّ الرجل استنكر تدخل جدّي في قوانين مهنته المتوارثة: «ما يصير يا عم مشهور.. كيف أسحِّر بنات؟». كان ذلك آخر رمضان مارس فيه عم يحيى مهنته بعد أن فقدت رونقها ومعناها، فالناس سهارى الليالي، وجدّة ما عادت تلك البيوت المتجاورة في الحواري المتقاربة. خلت البيوت من سكانها الذين هاجروا للشمال وهجروها، فصمت إيقاع الطبلة الخاوية، واختفى الرجل الرمضاني من أزقتها الفارغة: ما عاد هناك مِن يحصي قوائم أسماء الذكور. وانتهت تلك المهنة الرجاليَّة المتوارثة، مهنة ورثتها امرأتان في جدَّة، السيدة شاطرية، والسيدة زينب بيرقدار، وهما اللتان أسندتا مهمَّة التسحير لحسابهما إلى العم محرم، ومن بعده إلى يحيى حلنقي. امرأتان معروفتان بالاسم، تمتلكان مهنة بالتوارث تشترط عدم ذكر أسماء النساء، حتى إن كنَّ طفلات لا يدركن أزمة الفروقات الجنسيَّة. كان التناقض صارخًا، وكانت التفرقة في التعامل خانقة، لكنَّه التوارث بلا تمحيص، ولا تساؤلات. أو ربما لم يكن هناك أيّ تناقض، فالمهنة المتوارثة ذاتها تشترط أيضًا عدم قيام المرأة بها رغم امتلاكها. كلما وضعت اسمي قسرًا في سطر التسحير أجد أن علامة تأنيث كاف المخاطب ستكسره حتمًا: «لمياء باعشن.. مسّاكِ الله بالرضا والنعيم».. سطرٌ موروثٌ قد كُسِرْ..!!

مشاركة :