بعد انتهاء عملية ذبح المصريين في ليبيا، ونشر الفيديو المصور لها، ظهر على تويتر هاشتاق باسم # رسالة_موقعة_بالدماء_إلى_أمة_الصليب؛ يناقش ويُعلِّق على العمل الإرهابي الشنيع. كلما أسال الداعشيون الدماء، ونشروا صور جرائمهم بدم بارد، أثاروا في نفوسنا الرعب والاشمئزاز والغضب، فموبقاتهم تستدعي تلك السلوكيات الهمجية والوحشية التي ظننا أننا تركناها خلفنا في أزمان بدائية سحيقة. في القرن الواحد والعشرين نتباهى كبشر بأننا قد أنجزنا أعظم حضارة عرفتها الأرض، ونزعم أننا أهل المدنية والتطوّر والتقدم، كل هذه التكنولوجيا والسرعة والاتصالات والأشياء، (ملايين الأشياء) التي صنعناها وزحمنا بها كل ركن في فضاءات حياتنا تشهد بأننا قد فارقنا الحقب الأولية من تاريخنا البشري إلى غير عودة، فمن أي كهف انبعث هؤلاء الوحوش؛ ليطلّوا على زمننا العصري الفاضل؟! في القرن الثامن عشر كان النقاش بين المُفكِّرين والأدباء والفلاسفة في أوروبا يدور حول طبيعة الإنسان، وعمّا إذا كان مخلوقًا على فطرة طيبة نبيلة؛ تفسدها تعقيدات ومطامع المجتمع المتمدن، أم أنه مخلوق على فطرة شريرة تكبحها قوانين التمدن، وتوالي مراحل التطور. وقد مالت معظم الآراء حينها نحو اعتبار أن الوحش بداخلنا يبقى كامنًا لكنه لا يزول، بل تخفيه طبقات التمدن والتحضر. حين يتحرك الداعشيون فهم يشقون أردية التطور لتظهر الهمجية البدائية في أبشع صورها، وحين يسفكون الدماء تقشعر أبداننا من هول ما نشاهد. في عصرنا هذا المتطوّر والمنجز لأعظم حضارة عرفتها الأرض؛ تصدمنا داعش بشكل صارخ؛ لأنها لا تغلّف جرائمها ولا تخفيها، فهي تجز الرؤوس أمامنا، وتُروّعنا بالدم المتدفق. أمّا متحضر القرون الحديثة فهو يمارس إجرامه بشكل متمدن، لا يصدم الذائقة العصرية، فيطلق الرصاص، ويُفجِّر القنابل، ويشعل النيران، وينثر الكيمياويات والبيولوجيات، ويحقق الدمار الشامل بالذرة ونواتها. في عصرنا ما عاد الشر كامنًا تحت أردية الحضارة، بل أصبح فعلاً ملازمًا للخير، والأعمال البربرية المنافية للعقل والقلب صارت تعيش جنبًا إلى جنب مع العلم، والتصنيع التقني، والمدنية المتقدمة. الفعل الداعشي المروّع هو الوجه الآخر لعملة الفعل الحضاري، وهذا الجز للرؤوس لا يختلف في جوهره عمّا ارتكبته أقوى حضارة على وجه الأرض في القرنين العشرين، والحادي والعشرين، من أفعال شنيعة في حق الهنود الحمر والسود المستعبدين، واليابانيين، والفيتناميين، والأفغان، والعراقيين، وغيرهم بلا رأفة ولا إنسانية. كل الحضارات تحتاج لحماية عرينها بجيوش وأسلحة وأنظمة دفاعية، حتى جمهورية أفلاطون، ومدينة موور الفاضلة عززتا وجودهما بجيوش تصد المعتدين، لكن ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية، الممثلة لأهم حضارة حديثة، يتخطى حماية العرين، فجميع دفاعاتها استباقية، لا تحمي العرين بل حدوده الواسعة الممتدة، حدود أخطبوطية تنغرس أنيابها في ألف قاعدة عسكرية منتشرة في أنحاء العالم. ما قيمة أي حضارة بشرية إن لم تهذب النفس، وتقمع الغرائز، وتحفظ للإنسان قدره، وتؤمن حياته؟ بلا قيم إنسانية عُليا تكون الحضارة ذاتها توحشية، يعيش تقدّمها جنبًا إلى جنب همجيتها، وتسير إلى الأمام بقدم، وتغوص بالقدم الأخرى في أوحال البدائية المخلوطة بالدماء.
مشاركة :