أبي... وَداعٌ يتجدَّدُ وذكرى لا تغيب - مقالات

  • 6/18/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

* بمناسبة مرور 25 عاما على رحيل والدي الشيخ عبدالله مبارك الصباح طيب الله ثراه. يحدث أن لا نألف الغياب أحيانا، ولانستسلم لسطوته، وهنا رجل أقوى من غيابه. تظلّ ذكراه خالدة في الزمان، وعابقة في المكان. ذكرى ترتفع في المدى العمودي حين علمنا خطوات الاقتراب من الله وأبجديات تصفية القلب والنفس والارتقاء بالروح إلى مراتبها السامية، وذكرى تمتد في المدى الأفقي حيث هيأ لنا وسائل بناء علاقاتٍ طيّبةٍ مع الناس، ونشر الخيرِ والعلمِ. وهذا قليل من كثير تعلّمتُه وحفظته والتزمت به، مثلماحفظتُ كلمته التي كان يردّدها دائماً: «نحن نؤمِن بالمستقبل». أخاطب الإنسان الرقيق، وأخاطب رجل الدولة القوي الذي كان متفائلاً في أحلك الظروف، ومبتسماً في أعتى الأزمات، لا يتخلى عن حكمتِه ولا عن التأنّي في التصرّف حتى في سورات غضبه. أبي... الذي يراه العالَمُ كلّه أنه أبي، وأنا أراه العالَم كله. ربع قرنٍ مرّ على رحيله، وكلّما طال الغياب زادَ حضوره، وكلّما صادفتُ أحداثاً تذكّرتُ تفاصيلَ التفاصيلِ من كلامه، وتلك الرؤية المستقبليّة التي يتمتَّع بها ويسقطَها على الواقع، لتتناسب معه تماما. هو الحاضر في القضايا، وفي حكايات مَن عاصروه ومَن التقَوا به ومَن عملوا معه. كانتِ الكويت في أشدّ حالاتها حاجَةً إلى رجل نشِط لا يهدأُ، يعمل على مدار الساعة، لأنها لحظاتُ البناء التي تتطلّب مواصفاتٍ خاصَّة، ورجالاً من طراز خاص. مِن حُسن حظِّ الكويت أنْ كانَ فيها عددٌ من الرجال الذين هيَّؤُوا لها ذلك، وحرَصُوا على متانة أعمدة الأساس، لأنّهم يعرفون أنّ الأعاصيرَ كثيرةٌ، والزلازلَ عديدةٌ، فلا بُدَّ مِن التحضير لها بقواعدَ فولاذيّةٍ قادرةٍ على الصمود، على أنه إذا تأثّرتِ الهَوامش بقي الأساسُ صلباً قويّاً. وها هي الكويت اليوم، تمرّ بأقسَى اختباراتِها في مَحاولات تفتيت الهويّة وتقسيم الأسماء والصفات والانتماءات، وها هي السماءُ ملبّدة بالخفافيش، وأنت يا والدي قد أغمضْتَ عينيكَ على كويتٍ محرَّرةٍ بعد أن اطمأننْتَ أنّ الأرض عادت إلى أهلِها، وأنّ الغُزاة الذين داهمونا فجراً عادوا إلى خيباتِهم وخزيهم. هاهي الكويت تبقى صامدة فتية قوية، لاينقصها سوى شباب يشعرون بما بين أيديهم من نعمة عظيمة ومسؤولية كبيرة. رحمك الله يا أبي الغالي، يا مَن تعبْتَ سنين طويلةً في بناء وطنٍ جميلٍ، ثمّ ترجّلْتَ عن صهوةِ جوادِكَ بمحض إرادتك لتتفرّغ، بعدما ساهمت في بناء منزل الأسرة الكويتية الكبيرة، لبناء أسرَةٍ صغيرةٍ متجانِسة متآلِفة، ما زالت حتّى هذه اللحظة كلّما اجتمعَتْ تذكُر حكاياتِك وكلماتِك ومحبَّتَك وحزنَك الطويلَ. ما زلْتُ أرى بصَماتِك في الجيش والشرطة والإعلامِ والتعليم والطيران والرياضة، وفي قلب وَالدتي التي لم يغِبْ ذِكرُكَ عن قلْبها يوماً واحداً. كُنْتَ مِن نِعَم اللهِ علينا، ولولا أنها سنّة الله في كونه وفي خلقه، والله غالب على أمره، لما كان لهذه النعم أن تتسرَّب من قلوبنا لحظةَ ذكرى، فأنت الحاضر الذي لم يغِبْ ذكره وذكراه، والربّانُ الذي يوجِّه السفينةَ في أعالي البحارِ رغم أنه قد رسا على شواطئ السكينة، وانحازَ لوداعة الخلود... فعليك رحمات الله... وكما قالت سعاد الصباح حفظها الله: (قدر الكبير بأن يظل كبيرا).

مشاركة :