نحن أمة مقلدة منذ ما يزيد على مئة وخمسين عاماً. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، اعتدنا أن ننظر إلى الدول الصناعية في الغرب (التي كنا نسميها الأمم الراقية)، لنري ما تفعل ثم نفعل مثلها، من دون أن نضيف شيئاً ذا بال؟، بل وأحياناً دون أن نفهم الفائدة المقصودة من هذا الفعل ابتداء. محمد علي، الذي حكم مصر ما يقرب من النصف الأول بكامله من القرن، أراد أن تصبح مصر دولة مستقلة، صناعياً وزراعياً وعسكرياً، فوضع القيود الصارمة على الاستيراد، وبدلاً من سلع الاستهلاك، استورد الخبراء. أضف إلى ذلك أن الفارق بيننا وبين الدول الصناعية قبل منتصف القرن التاسع عشر، في نمط المعيشة ومتوسط الدخل، كان أقل بكثير مما أصبح بعد ذلك، لم يكن الغرب قد أتم ثورته الصناعية، باستثناء بريطانيا وفرنسا، ولم يكن قد عرف بعد السيارة أو التليفون أو الراديو أو آلة التصوير أو السينما... إلخ. ولم تكن عادة قراءة الصحف قد ترسخت، لا عندهم ولا عندنا. وهناك صور مرسومة للخبراء الفرنسيين المقيمين في مصر في عهد محمد علي، وهم يرتدون الملابس التي كنا نرتديها، وقد جلسوا لتناول نفس الطعام الذي نأكله. لم يعد الأمر كذلك بعد 1850. فقد تغيرت أحوال الدول الصناعية بسرعة، كما تغير نوع الولاة والحكام الذين حكموا مصر منذ ذلك التاريخ. تضاعفت قدرة الغرب على الإنتاج، بينما جاءنا حكام ذوو ميل قوي إلى استهلاك السلع الغربية، اتسع الفارق بيننا وبينهم في معدلات النمو، كما زاد عدد القادمين منهم للإقامة بيننا، جالبين معهم أنماطاً جديدة للاستهلاك، حتى جاء الاحتلال، فأصبحت هذه الأنماط أكثر جاذبية، لمجرد أنها أنماط حياة شعوب أقوى منا عسكرياً وأشد سطوة، فارتبطت هذه الأنماط الاستهلاكية في الأذهان، بالنجاح والقوة، ومن ثم بالرقي والتقدم. ومع ذلك، لم تغب الحقيقة عن بعض المصريين الأكثر يقظة والأشد فطنة. فقد كتب محمد المويلحي في بداية القرن العشرين، قصته المشهورة (حديث عيسى بن هشام)، سخر فيها مما بدأ يشيع بين المصريين من ضعف التمييز بين ما يجوز تقليده وما لا يجوز. لم يتغير الأمر كثيراً طوال القرن العشرين، وإن كانت قد ضعفت قدرتنا على ملاحظته، لمجرد أنه أصبح أكثر شيوعاً وأشد رسوخاً. أدخلنا جهاز التليفون مثلاً في أوائل القرن، ولكننا استخدمناه في الثرثرة أكثر مما استخدمناه في إنجاز الأعمال بسرعة، وهو ما كان الهدف من اختراعه، ما أثار سخرية لاذعة من الشيخ عبد العزيز البشري في كتاب قطوف في ثلاثينيات القرن الماضي، وأدخلنا الراديو ثم التليفزيون، ولكننا استخدمناهما لترويج السلع الاستهلاكية التي ينتجها غيرنا. لقد حاولنا مرتين أو ثلاث مرات خلال المئة والخمسين عاماً الماضية، أن نسلك سلوكاً مختلفاً، فتعرضنا للضرب في كل مرة، تأديباً لنا، وتنبيهاً بألا نحاول تكرار المحاولة مرة أخرى. كان الخديوي إسماعيل مفتوناً بالغرب، ولكنه ظن أنه من الممكن أن يجعل مصر قطعة من أوروبا بطريقته، فشيد بعض المصانع، وجرب إدخال الديمقراطية، وحاول إصلاح التعليم، فأصر دائنوه في الغرب على عزله، فعزل، وجرب طلعت حرب، ثم عبد الناصر، أن يبنيا صناعة مستقلة والاستغناء عن الواردات، فأصر المصدرون والمستثمرون في الغرب، على ضرب هذه المحاولة في 1967، مستخدمين إسرائيل، التي كانت كارهة لما نفعله لأسبابها الخاصة، ونجحوا في ذلك، ولم تتكرر المحاولة منذ ذلك الحين. لقد كتب المفكر السوري، جورج طرابيشي، الذي رحل عنا منذ أسابيع قليلة، يوجه لوماً شديداً إلى بعض الكتاب (وأنا منهم)، الدائمي الشكوى من تقليد الغرب، ويصورون الغرب وكأنه المسؤول عن فشلنا وتخلفنا، وأطلق عليهم وصف (المرضي بالغرب). ولكن الذين يشكون مثلي من التقليد الأعمى للغرب، لا يضعون المسؤولية كلها بالضرورة على الغرب عن فشلنا وتخلفنا، فالمسؤولية بلا شك مشتركة، أما المرضي بالغرب الحقيقيين، فهم هؤلاء المقلدون للغرب تقليداً أعمى، وليسوا من يشكون من هذا التقليد، ويدعون إلى الإقلاع عنه. أثناء ذلك، لم ينقطع الغرب عن التقدم المستقل، فأبدع مختلف أنواع السلع والخدمات الجديدة، فأضاف إلى الراديو والتليفزيون، أجهزة الفيديو والمحمول وشبكات الاتصال، التي جعلت العالم، أكثر من أي وقت آخر، قرية كبيرة واحدة، ودخلنا ما سمي بعصر العولمة، فكان لا بد أن يصل إلينا ما سمي بالمجتمع الاستهلاكي، الذي بدأ يشيع في الغرب منذ أواخر الستينيات. وقد كان لهذا المجتمع الاستهلاكي، سيئاته عندنا وعندهم، ولكن الذي حدث، كما يجب أن نتوقع، أن هذه الظاهرة أصبح لها في بلادنا سمات قبيحة للغاية، تفوق أي شيء رأيناه خلال القرن ونصف القرن السابقين من تقليد الغرب، إذ فاق هذا التقليد هذه المرة، أي تقليد سابق، سواء في جدارته بإثارة السخرية أو الحزن، وسواء تعلق الأمر بمن كانت لديهم القدرة الشرائية على ممارسة عادات المجتمع الاستهلاكي، أو بمن عجزوا عن ذلك، ما يتطلب المزيد من الشرح والتوضيح.
مشاركة :