ليست الوثيقة التي وقعها خمسون ديبلوماسياً اميركياً مطالبين بتنفيذ عمليات عسكرية دقيقة ضد النظام السوري جديدة بالمعنى السياسي. فكان سبق لديبلوماسيين من الصفين الثاني والثالث ومستشارين عسكريين ان رفعوا مراراً توصيات من هذا النوع. وكانت النبرة الاميركية الرسمية علت في هذا الاتجاه ايضاً اواسط 2013 بعد الهجمات الكيماوية، حتى ساد اعتقاد بأن الطائرات والأساطيل المخلّصة مقبلة لا محالة. وليس سراً أنه داخل الإدارة الأميركية ثمة أجنحة تؤيد التدخل العسكري «الموضعي» في سورية، سواء للتعجيل في الحسم سابقاً او لتحسين شروط التفاوض حالياً، وذلك حتى ضمن الحزب الديموقراطي نفسه. لكن الجديد ربما هو تزامن الإفراج عن الوثيقة ومنحها تلك الأهمية والتغطية الإعلامية مع اعلان رسمي بـ «نفاد صبر واشنطن» حيال روسيا تحديداً، ولقاء وزير الخارجية جون كيري الديبلوماسيين الموقّعين على العريضة في شبه تأييد لموقفهم. وفي ذلك ما يمنح موقفهم اعترافاً داخلياً اولاً، لكنه ايضاً يرسل الى الخارج رسالة مفادها أن الإدارة الحالية التي تبذل ما في وسعها لإعلاء صوت الديبلوماسية والتوصل الى حلول وسط، تواجه تياراً متنامياً أكثر ميلاً إلى الحلول الجذرية. وإن أي تباطؤ اليوم يغذي هذا الميل ويقويه، وهو ما سيتم توريثه للإدارة المقبلة. فعوضاً عن مزاحمة الوقت المتبقي لنقل ملف ديبلوماسي قابل للتفاوض وإن بالحدود الدنيا وبنود عالقة، سيتم نقل «معضلة» (كما بدأت تشاع التسمية) يشكل التدخل العسكري المباشر أحد حلولها. فأيهما يفضل حلفاء الأسد؟ كلا الحليفين، أي طهران وموسكو، عبرا أخيراً عن رغبة في حل ديبلوماسي، وعدم التمسك بشخص بشار الأسد، واستعداد كل منهما للتفاوض على مصير سورية، ونظامها المقبل وشكل الحكم فيها، مقابل ضمان مصالحهما. وهنا مكمن المعضلة. فقد أثبتت الأشهر الأخيرة والعمليات العسكرية على الأرض، ان تلك المصالح متباينة الى حد التنافس، وأن اياً من الطرفين لا يرضى بالعمل تحت قيادة الآخر، وأن المعسكر المؤيد للنظام السوري فشل في تشكيل «تحالف» متماسك حول نهج واضح او رؤية موحدة يتم التفاوض على أساسها، حتى بدا انه لم يبق من ركيزة لهذا الدعم الا مزاعم محاربة «داعش» والحفاظ على «مؤسسات الدولة»، وكلا الطرفين يعلم أن اياً منها ليس دقيقاً أو كافياً. والحال ان روسيا التي تحارب بجيشها وعتادها وطائراتها، تعمدت احراج النظام وحليفها الإيراني عبر وقف التغطية الجوية في معارك ريف حلب الأخيرة، ما كبد قوات النظام و»حزب الله» خسائر بشرية كبيرة. وذلك في اشارة واضحة منها الى أحقيتها في القيادة نظراً لعجز القوات البرية عن انجاز أي تقدم عسكري ما لم يحظ بمظلة روسية عسكرية سياسية. لكن في ذلك ايضاً اشارات «حسن نية» تفاوضية ترسلها موسكو تجاه الغرب، ملوحة بإمساكها بأوراق قوية، منها حلب. وإلى ذلك، لا ننسى ان مخاض التفاوض المتعثر الذي تخوضه روسيا حول سورية، يوازيه مخاض تفاوض آخر لا يقل تعثراً ويحتل رأس اولوياتها، وهو مصير الملف الأوكراني والعقوبات المفروضة على موسكو. فقبل أيام قليلة فقط، تقرر إبقاء العقوبات، وربط مناقشتها بمفاوضات مينسك المقبلة. أما ايران التي تفاوض على تطبيق الاتفاق النووي تطبيقاً كاملاً، ورفع العقوبات «غير المتعلقة بالبرنامج النووي»، فقد تفاوض على مصير الأسد وهي كانت أبدت استعداداً لذلك. فأولويتها الآن رفع الحظر المفروض عليها وعلى شركاتها بسبب تهمة «دعم الإرهاب» التي تعود الى أزمة الرهائن، وليست وليدة الأمس. لذا فإن الوثيقة التي كشفت أخيراً حول تغاضي ادارة اوباما عن هذا الملف، تلوح بإمكانية ابقائه مفتوحاً وباباً آخر للابتزاز. لذا، في سورية قد تسعى طهران الى تحصين الطائفة العلوية في دستور يضمن موقعها في سياق حكم «توافقي» يمر بمرحلة انتقالية، لكنها لا تملك في المقابل ان تفاوض على نطاق أوسع سبق ان خسرته لمصلحة روسيا، خصوصاً أن الأخيرة تملك تفويضاً رسمياً بالقيادة العسكرية وقبولاً شعبياً في المناطق المؤيدة للنظام أكثر مما يتمتع به «المجاهدون» اللبنانيون والعراقيون. وفي ذلك مشكـــلة اضافية مؤجلة ستواجه الإيرانيــــين، ان كانوا يولون لها بالاً اصلاً. فروسيا التي تقاتل بقـــواتها وخبرائها المدنيين «النظاميين»، اعلنـــت انها ستمنح كل من شارك في الحرب السورية صفة «قدامى المحاربين»، بمعنى انها ستتحمل مسؤولياتها كدولة تجاههم، ولأن خيارها الوقوف الى جانب النظام الســـوري خيار استراتيجي في حساباتها وعرفها. اما ايـــران التي تقاتل الى جانب الأسد من منطلق عقائدي فإنما تخوض حربها بميليشيات البلدان المجاورة. وليس واضحاً بعد كيف لها أن تشكر سعيهم بعد اقتسام قالب الجبنة وضمان حصتها فيه، في جنيف أو اوسلو او غيرهما. كذلك ليس واضحاً ما قد تتعهد به طهران دولياً حيال «حزب الله» مثلاً، فيما التقارب الروسي والتركي مع اسرائيل جار على قدم وساق. ربما يأتي يوم ليس بعيداً، نستنتج فيه ان تلك واحد من نجاحات ادارة أوباما في «القيادة من خلف». فلا يمكن نكران ان واشنطن فتحت قنوات تفاوض ثنائية مع موسكو وطهران كلاً على حدة، ووفق اجندات متباينة، وفـــرضت عليهما «مرونة» في الملف السوري، حتى بات الحديث عن مصير بشار الأسد نفسه، تفصيلاً قابلاً للنقاش. اذ لا يبدو اليوم ان ثمة مانعاً لدى حليفيه من التضحية به مستقبلاً في مقابل حفظ المصالح الأكبر. أما لحظة التقاء تلك النوايا وتقاطعها فقد تستغرق وقتاً أطول، تقرره جولات المفاوضات المقبلة.
مشاركة :