سقطت أنظمة وقامت أخرى، وعُزل حكام وخُلع رؤساء وجاء غيرهم، وصوّت المصريون مرة ذات اليمين وأخرى ذات اليسار، وسطع نجم سياسيين وخفت نجم آخرين، وتعلقت القلوب بأحزاب وركزت العيون على أخرى وتساقطت هذه وتلك غير مأسوف على كليهما، ومضت 74 عاماً على ثورة أسقطت نظاماً ملكياً وخمس سنوات على أخرى أسقطت الرئيس السابق حسني مبارك، وثلاث على ثالثة أسقطت الرئيس السابق محمد مرسي، ومازال المصريون يعيشون بلا معارضة حقيقية أو بدائل واقعية أو حتى أفكار خارج صندوق السلطة الحاكمة والناس التي تقول لا. التعريف الشعبوي السائد في الشارع المصري هذه الأيام للمعارضة، في ضوء الخبرات المتراكمة والأحداث المتلاحقة، يشير إلى أن المعارض هو ذلك الشيء الذي يقول «لا» على كل ما يصدر عن الرئيس أو الحكومة أو الإعلام الرسمي. وبين قائل إنها أولئك الذين يقفون على سلالم نقابة الصحافيين بين الحين والآخر، ومرجح أنها الجمعيات الحقوقية أو الجماعات الإسلامية المنتقدة للحكم، ومؤكد أنها مجموعات من الأحزاب السياسية بعضها قديم وبعضها حديث ممن تدلو بدلوها في تصرفات الحكومة، ومشير إلى أنها تقتصر على شخصيات سطع نجمها في أحداث وحوادث متواترة ثم خفت في إخفاقات متتالية، ومحذر من أنها كل صوت أو كيان أو جماعة تم تقليصها أو ترهيبها أو تشويهها، تتداخل وتتشابك وتتراوح مفاهيم المعارضة في الشارع المصري. هذا التداخل العجيب الغريب الفريد يذهل علماء السياسة ويحير منظري الاجتماع ويدفع مؤرخي الأحداث إلى إعادة النظر في كتالوغات الشعوب المعدة سلفاً وأدلة الحكام المعروفة مقدماً وتعريفات العلوم السياسية التي لم تحدث منذ زمن. فقد ولى الزمن الذي اعتاد فيه المصريون عبارات على شاكلة «المعارضة من الداخل» و «المعارضة الواقفة على يمين الحكم» وتلك المنتظرة على يساره و«أحزاب المعارضة» التي تواجه «الحزب الحاكم»، وذلك لأسباب عدة لا تتعلق فقط بتحلل منظومة «أحزاب المعارضة» قلباً وقالباً فقط، لكن أيضاً لأنه لا يوجد حزب حاكم من الأصل. «حزب الرئيس (عبدالفتاح السيسي) بتاع دعم مصر أو تحيا مصر، لا أتذكر، يغطي على غيره من الأحزاب، فالوضع صعب وحزب الرئيس والحكومة والمسؤولون في مهام إنقاذ لا تتحمل رفاهية حزب إني أعترض أو مجموعة إني أحتج. ثم أن خارطة الطريق التي أعلنها السيسي قبل ثلاث سنوات لم تنص على معارضة». المفاهيم الملتبسة والأفكار المبهمة عن الحكم والمعارضة لا تقتصر على «عم حسن» صاحب السوبر ماركت الصغير في حي شبرا الشعبي، لكنها أيضاً تمتد لتطاول بعض من يعلقون اختفاء المعارضة في ظروف غامضة على ما تمارسه الدولة من «قمع للأصوات وهتك للحريات وانتهاك للحقوق واغتصاب للحق في المعارضة». مجموعات ثورية وحقوقية وغاضبة تناضل على شبكة العنكبوت أو تجاهد على سلالم نقابة الصحافيين أو تكافح خارج الحدود، تردد أن كل من يعارض أو يواجه أو يجابه النظام يتعرض للتنكيل أو التشويه أو التلبيس، أي تلبيس الاتهامات. وتكمن المشكلة الحقيقية في أن موقف الشارع في معظمه من مثل تلك الاتهامات معادٍ ومكذب ومندد، وهو ما يقزم فرص تلك المعارضة في البزوغ والتألق. لكن التألق يأتي من نصيب شخصيات بعينها تواجه خفوتاً في نجمها تارة وبزوغاً تارة وبقاء في الذاكرة الشعبية باعتبارها «معارضة» بشكل أو بآخر. فئتان رئيستان تميزان هذه المجموعة من المعارضة. الأولى رموز ارتبطت بالثورة، فمنها ما كان أيقونة ومنها ما كان ضرورة ومنها أيضاً ما كان نيزكاً سرعان ما احترق، إضافة إلى كل مرشحي الرئاسة الخاسرين. والثانية أفراد من النخبة المثقفة والمطلعة تكتفي بالتعبير عن آرائها المعارضة ومواقفها الرافضة لسياسات الحكم بتدوينات «فايسبوكية» أو كتابات صحافية. لها مريدون وتتمتع بمؤيدين، لكنها تبقى جهوداً فردية متفرقة قوامها التنظير وإطارها الورقة والقلم أو لوحة التحكم، لكن كليهما يظل بعيداً من الشارع. ويبدو أن البعد من الشارع يظل سمة المرحلة. فالأحزاب السياسية، القديم منها والحديث، صاحب التاريخ الوطني الضارب في البلاد والمؤثر في العباد وصاحب التأثير الوطني الضارب في تنظيم مسابقات العمرة وتوزيع علب الكعك وكرتونة رمضان، يقف جميعها على قدم المساواة من حيث الانفصال عن الشعب والانفصام عن الواقع. فبين أحزاب قديمة تحللت بفعل الزمن وتهلهلت تحت وطأة الانقسامات الداخلية والاحتقانات الشخصية والأمجاد الفردية، وأخرى حديثة «فرقعت» وقت ولادتها من رحم الثورة لكن انزوت في مقارها ملتزمة بالبزوغ الموسمي إما ترشحاً لانتخابات أو تعليقاً على كوارث أو تنظيراً في استوديوات، لم يعد المواطن العادي يعتبرها «معارضة» بالمعنى المعروف، بل «نعم» بالمعنى المكبوت. وإذا أضفنا إلى ذلك دورها المسالم وصوتها الساكن تحت القبة، تكون قيمتها قد انتفت شعبياً. وهي في ذلك شأنها شأن جماعات الإسلام السياسي التي خفت نجمها أو أُخفِتَ، وانحرق وهجها أو أُحرِق سواء بفضل أخطائها الفادحة، أو الظرف التاريخي والإقليمي الفاضح للخلطة السحرية، حيث تديين السياسة وتسييس الدين، أو بفعل تربص النظام بها للقضاء على شوكتها وإفناء سمها. لكن سموماً من نوع آخر مرشحة للانتشار وباتت غير قابلة للانتظار. فضيق صدر النظام تجاه بوادر المعارضة ولو كانت فكرية، وبذور الخلاف ولو كانت سياسية، والمجاهرة بالاعتراض وإن كانت في الدوائر المغلقة جنباً إلى جنب مع تنامي شعور شعبي بأن البلاد لا تحتاج «وجع دماغ المعارضة» يؤخران ويؤجلان وربما يميتان ولادة معارضة حقيقية كتلك التي تحتاج إليها النظم الديموقراطية.
مشاركة :