كان معروفاً منذ شهور، أن عباس كيارستمي مريض وتزداد حال مرضه سوءاً يوماً بعد يوم، لكن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون رحيله بمثل هذه السرعة. فصاحب «أين بيت صديقي؟» و «عشرة» و «طعم الكرز» وغيرها من الأفلام الكبيرة التي طبعت السينما العالمية بتجديداتها اللغوية والمفهومية وساهمت في السمعة المبهرة التي حازتها السينما الإيرانية في العالم، كان لا يزال يعطي حتى شهور قليلة خلت، مؤشرات حيوية لا تنضب، ويشتغل على موضوعات عدة لمشاريع مقبلة. ومع هذا، ها هو نبأ رحيله يصل في وقت كنا نتساءل عمّا سيكون مشروعه المقبل؟ سينمائيّ، أوبراليّ، فوتوغرافيّ، أدبيّ...؟ فكيارستمي خاض كل هذه الأنواع وغيرها، مجتمعة أو متفرقة، في داخل إيران وخارجها، وخصوصاً بالنسبة الى الأنواع غير السينمائية خارجها. مهما يكن، وعلى رغم من أن كل الدلائل كانت دائماً تشير الى أن عباس كيارستمي غير راضٍ عن بعض سياسات بلاده، من دون أن يجعل من نفسه وفنه سلاحاً في أي معركة من هذا النوع، كان كثر يدهشون لكونه لا يغادر إيران نهائياً كما فعل حتى الآن معظم كبار المبدعين والمفكرين الإيرانيين، تماماً كما دهشوا حين انصرف، من دون أي إعلان مسبق ومن دون لعب دور المضطهد أو الشهيد، خلال الأعوام الأخيرة الى تحقيق فيلميه الأخيرين في الخارج: في إيطاليا بالنسبة الى «نسخة طبق الأصل» وفي اليابان بالنسبة الى «مثل شخص واقع في الغرام». واللافت أن ليس لأي من هذين الفيلمين علاقة بسينماه القديمة الرائعة ولا بإيران نفسها. ألم نعرف دائماً أن كيارستمي فنان تجريب متواصل، وعلى كل الصعد، منذ أفلامه الأولى؟ تجريبية كيارستمي كانت تشمل كل شيء، من الاشتغال على التصوير الفوتوغرافي، إلى ربط أفلامه بعضها ببعض كما حال «ثلاثية كوكر» حيث ينبع كل فيلم من سابقه، بدءاً بـ «أين بيت صديقي؟» الذي يتحدث عن صبي يبحث عن منزل رفيقه في قرية مجاورة ليعيد إليه دفتراً كان نسيه وسيطرد من المدرسة لو أضاعه. هنا في الفيلم التالي عاد المساعد السابق لداريوش مهرجي ومؤسس قسم السينما الحديث في جامعة طهران، إلى نفس القرية في ثاني أفلام الثلاثية «...وتستمر الحياة» بعدما كان وقع فيها زلزال حقيقي وبدأ بحث أب وابنه عن رفيقين للابن بين أطلال الزلزال. أما في الثالث «عبر أشجار الزيتون»، فاكتملت الثلاثية في القرية ذاتها عبر تصوير فيلم فيها يشمل زواجاً بين شابة وفتى اشتغلا كومبارسين في الفيلم السابق الذي صُوّر هناك. باكراً، منذ هذه الأفلام ولاحقاتها، مثل «ستحملنا الرياح» و «كلوز آب»، التي سرعان ما غزت العالم وحققت الجوائز الكبرى وأضافت اسم عباس كيارستمي الى أسماء أولئك السينمائيين العالميين الكبار: ساتياجيت راي الهندي وكوروساوا الياباني، وحتى شاهين المصري، الذين يؤكدون دائماً مقولة أن لا مكان لنبي في بلده، حدد كيارستمي عوالمه السينمائية: سينما عن الموت والحياة، سينما عن السينما، سينما لا تخاف خوض التجارب، سينما تتأرجح بين الوثائقي والروائي، سينما عن الفرد وموقعه، سينما روحية تكاد تكون صوفية، سينما تستنجد بالصورة لكنها لا تخشى اختـفاءها تاركة للأصوات أن تشتغل بديلة منها، ثم بخاصة سينما تشاكس إنما لا يبدو عليها أنها تفعل ذلك، تشاكس أخلاقياً وسياسياً وجمالياً... ولكن دائماً بالاستناد إلى ذلك المكر الإيراني الظريف والخفي الذي كان كيارستمي ملكاً من ملوكه في مجال الفن. وعلينا أن نتذكر امرأة فيلم «عشرة» وهي تتجول بسيارتها في شوارع طهران مبدّلة ركّابها عشر مرات، أو نساء إيرانيات وهنّ يشاهدن بشغف حكاية «شيرين» تمثَّل أمامهن على شاشة لا نراها. أو ذلك الشغف بالسيارات ودلالاتها في درامية أفلامه... هذا كله وغيره علينا أن نتذكره كي ندرك الخسارة التي يمثلها اليوم غياب هذا المبدع الكبير الذي حين سئل يوماً لماذا لا يغادر إيران كما فعل غيره، أجاب مبتسماً: «أنتم لو انتزعتم شجرة من أرضها وزرعتموها في أرض أخرى، قد تواصلون الحصول على ثمارها، لكنها لن تكون طيبة المذاق كما كانت حالها في أرضها القديمة». والحقيقة أن مقارنة بسيطة بين أفلام كيارستمي الإيرانية ، والسينما التي حققها في الخارج، ستحسم الجواب هنا.
مشاركة :