أُثخن في دماء شباب الناصرية، منذ الأول مِن أكتوبر الماضي وحتى الآن، فالقتل مستمر والأحياء ينوبون عن القتلى في اللحظة نفسها، وكأنها معركة مِن المعارك الكبرى، قد تُذكر بمعركة غابرة، سميت المحافظة باسمها، بين كسرى وأتباعه وبني شيبان وحلفائهم (نحو609 ميلادية). لكنها معركة الهتاف والنَّشيد مقابل الغاز السام والرصاص، معركة غير متكافئة، ولا أخلاق فرسان فيها، خارج المدى الإنساني، صحيح أن الحروب كافة متجاوزة لهذا المدى، ولكن مبارزة المسلح مع الأعزل قد لا تألفها سنن معارك التاريخ. ليس وجود الناصرية يبدأ من(1869)، لما قرر وزير العراق مدحت باشا(ت 1883)، بناء مدينتين، الرمادي بالغرب والناصريّة بالجنوب، والأخيرة أخذت اسم ناصر باشا السعدون(ت بعد 1877)، متصرفها الأول، إنما مِن هنا بدأ الاسم، وإلا تاريخها أقدم مِن اسم «ذي قار» نفسه. شهدت أرضها، وما تفرعت منها حضارات عريقة، السومرية والأكدية، هذا ما حوته «أور» وملحقاتها الحضارية. غير أن الاسم «الناصرية» أطرب الأسماع، وصار علماً لنهضة مدنية في الخمسينيات والستينيات وما بعدها. فما نتذكره أن شارع الحبوبي، نسبة إلى الشَاعر الفقيه محمد سعيد الحبوبي(ت1915)، والذي يُعرف محلياً بـ«عكد(عقد) الهوى»، سكة ترى فيها مباهج النَّهضة الاجتماعية، تعايش فيها العراقيون على اختلافهم. لم يثر وجود آل السعدون، وكانوا على المذهب المالكي، غالبية سكان الأقضية والنواحي ومركز المدَنية كونهم مِن الإماميَّة، فاتحدت العشائر، سنتها وشيعتها، وعُرفت بالمنتفك، ومِن هذا المكان أخذ والد رئيس الوزراء الحالي لقب «المنتفكي». كان أول مَن شيد منزلاً بالناصرية (المركز) نعوم سيركس الأرمني الكاثوليكي(ت1956)، وبنى فيها أسواقاً ومقاهي وخانات، وأصبح أميناً لخزانتها، وأن الذي خطط المدينة المهندس البلجيكي جول تيلي(بابان، أصول أسماء المدن والمواقع العراقيَّة). لكنّ رئيس الوزراء الحالي، على ما يبدو، نزع اللقب عنه، وتخلى عن النسبة لهذا المكان، بأمارة القافلة مِن القتلى الشَّباب، واتهامهم بالعملاء والمندسين. ربما لم يشعر بعاطفة لهذا المجتمع، مثلما شعرها هو وغيره خلال الانتخابات، تجعله يتجرد عن سُلطة المحاصصة، وخضع فيها لمَن يعد اسم «ذي قار» عدواً له، لأنه تذكير بانتصار تاريخي لعرب آل شيبان، الذي لم تخفه أتربة العقائد، التي تتجاوز الحدود الجغرافيَّة. كانت منظمات حقوق الإنسان، التابعة للأحزاب الدينية أو للمجال الديني، تحسب حساب الطائر إذا قُتل بالناصرية، وتُناشد العالم لإنقاذه، وقلبت الدُّنيا لتجفيف أهوارها، والمعارك مع المتحصنين بها، والذين قاتلوا وهم حملة السلاح، بمعنى أنها كانت معارك بين مسلحين، السلطة وخصومها، لكن في عهد (المنتفكي) مئات القتلى وآلاف الجرحى لا سلاح لديهم سوى الهتاف، نعم حرقوا مقرات أحزاب ومنظمات، وذلك بالأيدي لا بالرِّصاص، بعد اتخاذ سطوحها أوكاراً للقناصين. سميت المحافظة بذي قار عام (1969)، على أنها كانت موضع معركة «ذي قار»، وبالفعل المعركة حدثت قريباً منها، وما حاوله عيد اليحيى في برنامج «على خطى العرب» في قناة «العربيَّة»، مِن نقل مكان المعركة إلى داخل الجزيرة العربية، لا صحة له، وقد ردَّ عليه مواطنه عبد الله الحمياني تحت عنوان «موقع ذي قار الصحيح بالأدلة»، بما لا يُزاد عليه. أما عن اسم ذي قار فهو على ما نعتقد تسمية عربية للمكان، حيث كانت آثار «أور»، قبل التنقيب فيها، مجهولة للسُّكان، بعد أن شاهدوا الشوارع المعبدة بالقار، الآتي عبر السفن مع انحدار الفرات مِن «هيت»، حيث عيون القار الأزليَّة هناك. أما محلياً فعرف مكان أور بالمكير(المقير)، وليس أشهر مِن أغنية «المكير»، حتى أخذت عند ظهورها دور «بريد الهوى». قد يستغرب، غير المطلعين، من عنواننا «الشجرة الطيبة»، كناية كنينا بها الناصرية، ولا أذهب لهذا لتعصبٍ مناطقي، لكنني لا أخفي التعصب البلداني للعراق، فهو التعصب غير المؤذي كالقومي والديني والمناطقي، لأنه تعصب لشعب وجغرافيا، لأكثر من قوميّة ودين ومذهب ولون وعِرق. أقول يستغرب غير المطلع، فالناصرية ابتليت، بين الجد واللعب، بكُنية «الشَّجرة الخبيثة»، هكذا يتندر مواطنونا من بقية المناطق معنا، في هذا الأمر، ولم نأخذ تلك الكنية على محمل الجد، بل تُنسج الحكايات، زينة للمجالس! أما أصل الكنية، فيتناقل القدماء مِن أهلها، بأنهم وقفوا خلف شجرة يقاتلون المحتل البريطاني(1914-1915)، وقد عصوا عليه، فصاح قائدهم «اقلعوا الشَجرة الخبيثة»! هذه مِن المنقولات. فبما أن معظم الأحزاب شُكلت فيها، والعصيان يكثر في أهوارها وقُراها، ضد أكثر مِن نظام، أخذت هذه الكُنية تجدد. محافظة غزت العراق بالمغنين والملحنين والشعراء والأدباء، مِن داخل حسن وحضيري أبو عزيز إلى طالب القروغلي وزامل سعيد فتاح وحسين نعمة ومجيد جاسم الخيُّون وعريان السيد خلف وفهد الأسدي، وأكثر مِن شاعر مِن آل الرّكابي وغيرهم. على أيّ حال، تكشف لرجال الناصرية ونسائها الخديعة باسم الدين والمذهب، ففاقوا مِن كابوس المظلوميات، التي أتت بمن استخف بعقولهم، وظلمهم، وهم أهل الماء والمرعى والتاريخ والفن والمرح، حتى استحال فراتهم إلى ماء عكر. كان القناصون يتصورون أنهم يفجرون رأساً أو رأسين مِن الرُّؤوس النّيرة، والبقية تستقيم بخديعة وحدة المذهب، وخرافات العصور الغابرة، لكن الأمر ظهر لهم، أنها فعلاً شجرة خبيثة، فمَن لا يراعي تدينهم ولا يسكت على فسادهم، فهو الخبيث المتآمر المندس. أما الحق فالدِّماء دماء شجرة طيبة!
مشاركة :