هناك - لديّ على الأقل - نفور فكري ونفسي من قراءة كتب ونظريات كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس. أتأمل بعض رفوف مكتبتي: كتب عن النظرية المادية الديالكتيكية... وعن الماركسية والاشتراكية العالمية والعربية، وعن القومية العربية الخ... فيعبق في ذاكرتي أريج أفكارٍ سهرت الليالي أعانيها قراءةً وتلخيصاً وتأملاً ورفضاً وقبولاً وشكاً ويقيناً. تنتاب يدي شهوةُ تناول أحد هذه الكتب، فأشعر بأنها لا تستجيب! أُرغِمها على تناول كتاب شغفني بعمق وقت صدوره «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» للمفكر اليساري اللبناني (المغتال!) حسين مروة، بمجلدين ضخمين. خطفتْ يدي الجزء الأول. استعدت ما كنت قرأته. تذكرت أنني، وقتها، كنت مهووساً بالقراءة المتأنية المتأملة لساعات. بعد المضي المُجهِد في قراءة بعض الصفحات من المقدمة بدأت تنتابني حركة شلل فكري، شعور بالغثيان! من: «حركة التحرر الوطني العربي. حركة التحرر القومي العربي. التحالف بين القوى الثورية العربية وقوى التحرر العالمي، وعلى رأسها منظومة الدول الاشتراكية في أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية بزعامة الا تحاد السوفياتي، ووحدة النضال العالمي ضد الإمبريالية وربيبتها الصهيونية العالمية وإسرائيل الخ...». أحسست بأنني أقرأ (نكتة بايخة)! أعدت الكتاب إلى رف الذكريات. وبدأت أفكر. أتأمل. أتساءل: «لماذا هذا القرف الفكري والنفسي؟ كيف كنت سابقاً - وربما غيري- عاشقاً متيَّماً لهذه النظريات أو المقولات؟ لماذا لا تنتابني هذه الحالة وأنا أقرأ غير هذه المقولات»؟ أدرت مفتاح التلفاز لأهرب من قرفي ونفوري. برنامج مثير «خط النار»: لقاء مع ثلاث فتيات سُريانيات بلباس عسكري وكلاشنيكوف على الكتف الناعم. الحوار عن الحزب القومي السُّرياني والقومية السُّريانية. والمعروف أن السُّريان موجودون في العراق وسورية، وهم من أقدم شعوب الشرق، ولهم فضل عظيم في ترجمة تراث الإغريق إلى اللغة العربية. تبدلت الأوضاع السياسية والعسكرية بعد «الربيع العربي» الذي صار دامياً، وخارج تصنيف الفصول الأربعة. إنه الفصل الخامس، بل السابع!. وتبدّل المناخ النفسي والفكري واللغوي والثقافي العام، والاجتماعي، والاقتصادي، ومفهوم القومية والانتماء والولاء. صار العراقي والسوري، الذي حقنتْه الدولة العربية عبر قرون بعقاقير القومية العربية والتراث العربي وتاريخ العرب، لا يتحدث إلا باللغة الكردية والآشورية والسُّريانية (هذا حق مشروع)، ونشأت مواقع إلكترونية تمجِّد حضارات الشرق القديم في المنطقة (وهذا مكسب حضاري)، رافضة ومستهزئة بحضارة الصحراء؛ حضارة بول البعير (وهذا حُمْق وجهل وتعصب)! تلك ردات فعل طبيعية بسبب قمع المكوِّنات الأساسية لهؤلاء الأقوام، من لغة، وممارسة شعائر دينية، وعادات وتقاليد، وهوية. لديهم بصمة ذاتية لم تستطع عقود التعريب، عبر التعليم والثقافة، ونظريات القومية القومية... أن تمحو الخطوط السريّة لبصمتهم، لدينا الأرمن والشراكسة والآشوريون والكلدانيون والسُّريانيون، ثم الفراعنة ، والفاطميون، والبربر... عدا الأديان والطوائف والمذاهب. يا أيها الحكام ، في فسيفساء المشرق والمغرب، ويا أيها المنظِّرون السفسطائيون خارج التاريخ والواقع! كل قطعة فسيفساء في أرضكم لها لونها، ومكانها في تلك اللوحة العظيمة، لا تقتلعوا أي قطعة من موضعها، مهما صغرتْ، فهي تكمِّل وتجمِّل لوحة الحضارة في أرضنا. ولا تجعلوا لوحة الحضارة المتناسقة البديعة شظايا تتناثر هنا وهناك، لأنها ستجرحكم، وجراح الشظايا التي تشوِّه أسرار البصمة... لا تندمل. * شاعر وناقد سوري
مشاركة :