اتفقت العرب قديماً وحديثاً على أنه يجوز للشاعر مالا يجوز لغيره .. بمعنى يجوز له كل شيء وفعل أي شيء ــ من مخالفة اللغة وكسر القواعد، إلى هجاء السادة والتغزل بالحرائر!! وبصفتي عضواً في رابطة الكتاب في الأرض تتملكني الغيرة ويأكلني الغيظ من هذا التهاون وسعة البال تجاه الشعراء.. أتمنى لو يتبنى المجتمع ــ والنقاد من باب أولى ــ قانوناً موازياً وبنداً مشابها مفاده يجوز للكاتب مالا يجوز لغيره !! .. فـمن حيث اللغة؛ يجوز للشاعر ليّ القوافي ومخالفة القواعد واللجوء إلى الضعيف والواهي حتى وصل الأمر حداً خطيراً من التكسير والتجاوز (هذه الأيام) مع ما ندعوه بـالشعر النبطي.. حتى المتنبي لم يسلم من مواطن الزلل بدليل الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومة للجرجاني. ولم يكن للجرجاني من عذر وحجة حيال أخطاء المتنبي سوى العذر القديم (حسنا، يجوز للشاعر مالا يجوز لغيره).. وحين يتسع الفتق على الراقع يلجأ لتبرئة ساحة المتنبي من خلال إيراد أخطاء أكثر شناعة وقع بها شعراء فطاحل من العصر الجاهلي ـــ وهذا في نظري مجرد تبرير الخطأ بـالخطأ !! لـو كنت مؤلف الكتاب لما سلمت بدوري من التحيز للمتنبي ولكنني كنت سأسلك طريقاً أكثر عقلانية وسلامة وإقناعاً للناس.. سأقول إن المتنبي رجل مبدع خلق بمخالفاته اللغوية قواعد لغوية جديدة وأساليب مبتكرة في النحو والإملاء.. علمنا أشكالاً جديدة من التراكيب النحوية والتوافيق اللغوية والبدائل الإملائية .. وإن لم يرق هذا الرأي لحماة اللغة العربية والقواعد الحجرية سأسألهم بلا تردد: لماذا إذاً تطالبون الكتّاب بالكمال، وتتغاضون عمن يتبعهم الغاوون!! لماذا تتم محاسبة كتّاب ومفكرين لا يسعون لاستعراض مهاراتهم اللغوية (بـقدر إيصال رسالتهم من خلال لغة يفهمها الناس) في حين يتم التجاوز عن شعراء تعد اللغة المتقنة عـماد بضاعتهم وصميم عملهم بصرف النظر عن فهم الناس أو كما قال البحتري: عليّ نحت القوافي من معادنها *** وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ! ... لست من دعاة العامية ولكنني على قناعة بأن الوظيفة الأساسية لأي لغة هي إيصال المعاني بدقة ووضوح وفهم كاملين.. وهذان المطلبان لا يتحققان إذا تقيدنا بكل الكلمات والتعابير القديمة واعتبرنا كل الكلمات والتعابير الجديدة أخطاء وتجاوزاً لقواعد النحو! ... على أي حال؛ لاحظوا أننا مازلنا نتحدث عما ندعوه لغـة فصحى.. فـالشق الثاني من الموضوع هو الازدواجية والتساهل مع الشعراء في قضايا (يفترض) أنها حساسة ودقيقة في أعرافنا العربية.. فالعرب قديماً ــ كما هو حديثاً ــ كانوا يتقاتلون على التمرة ويختلفون على النواة وعلى من سبق الآخر داحس أم الغبراء.. ومع ذلك كانت أشرس القبائل تتساهل ــ وبل تستأنس ــ حين يتغزل الشاعر ببناتها ويصف محاسنهن وطيب السمر معهن خارج مضارب القبيلة .. لو عدنا لسير التابعين والصالحين لوجدنا لبعضهم أبياتاً في الشعر والغزل لم تهز مكانتهم أو تقلل من قدرهم أو تثير حفيظة العامة ضدهم.. حتى وقت قريب كان لدينا في المدينة شيخ جليل (أتحفظ على اسمه) له دروس منتظمة في الحرم يحرص الناس على حضورها وتسجيلها. وذات يوم لاحظ أحد طلابه أنه ــ كلما انصرف من حوله الناس ــ سحب كتيباً (من داخل المشلح) يقرأ فيه ثم يخفيه حين يقدم عليه أحد . فسأله الطالب ماهذا ياشيح؟ فقال هامساً مصارع العشاق نروح بها القلوب كي لا تصدأ!! .. مرة أخرى أطالب بأن يكون للكتّاب ــ أسوة بالشعـراء ــ نصيب من سعة البال وافتراض حسن النية.. ويا حـبذا لو تبدأ أقسام التصحيح في مؤسساتنا الصحفية بتبني هذا المبدأ!!
مشاركة :