الصراع الدائر في إيران بين المحافظين والإصلاحيين، يكشف عن وجه آخر للصراعات الداخلية في الدول الإسلامية والعربية ما بين قوتين سياسيتين واجتماعيتين، إحداهما تنادي بضرورة التحديث والإصلاح والتطور، وأخرى تتمسك بالمحافظة على ما تسميه بالثوابت الدينية. أي صراع هذا؟ هذا الصراع ليس وقفًا على إيران وحدها. ولو حاولنا تسمية الأشياء بأسمائها وبشجاعة، فإننا سنعترف بأن هناك قوى اجتماعية تحاول دائمًا إبقاء الأمور على حالها، ولا يهم التسمية التي تطلقها على نفسها أو تطلقها عليها القوى المعارضة لها، فالأمر في الحالتين سيان، وفي كل الأحوال واحد. إنها -أي هذه القوى- تعارض أي تغيير بدعوى أن هذا التغيير سينال من ثوابتنا وأنه سيهدد هويتنا بالتشويه. في المملكة خبرنا من قبل هذا النوع من معارضة التحديث، والذي يستعير لافتته من الإسلامية، ولكن بطريقة فجة، إذ ما أن سمحت النظم الرسمية بتعليم المرأة حتى ارتفعت هذه الأصوات معارضة هذا الأمر. يومها قال الملك فيصل -طيب الله ثراه- للمعارضين: نحن لم نجد في الإسلام ما يمنع تعليم الفتيات، ومن كان له رأي معارض فعليه ألا يدفع بناته إلى المدارس، فهذا أمر اختياري لا نستطيع أن نجبر الناس عليه. وهكذا استطاع أن يحل المشكلة ليضعها في حجمها الطبيعي، فهو من ناحية لا يفرض التعليم على من لا يرغب فيه، وهو أيضًا لم يترك هذا الخيار -أي خيار تعليم الفتيات- في أيدي من يعارضونه ولا يؤمنون بضرورته. ولاية الفقيه ********** إيران نشأت ثورتها التي تمخضت عن قيام حكومة دينية، في أحضان المراجع الدينية في إيران، وتحديدًا في حضن آية الله الخميني. والشاهد الآن أن جميع القوى السياسية والاجتماعية التي تعارض نظام الشاه يومها، وقفت إلى جانب السلطة الروحية التي كان يتمتع بها الخميني. ولم يكن الأمر يخلو من انتهازية سياسية من هذه الأحزاب المعارضة، الشيوعي منها والقومي بل حتى الديني، حين انتظمت تحت راية الخميني الذي كان يدعو وبهدوء مخيف إلى إسقاط الشاه ونظام حكمه. لم يكن الخميني ساذجًا -وإن حسبته الانتجلنسيا الليبرالية المعارضة للشاه كذلك- فقد كان على دراية بأجندتها السرية غير المعلنة في تضامنها معه. وبالفعل، وما أن أزيح النظام الشاهنشاهي بثورة شعبية عارمة، حتى بدأ الخميني بعملية تصفية منهجية لحلفائه، وكان أن انتحرت كل القوى الليبرالية والقومية التي تحالفت مع الخميني ضد الشاه بسبب سوء تقدير الحسابات السياسية الآجلة والمستقبلية، ولم تُنحر بيديه رغم أنه هو الذي أصدر أحكام نحرها. لقد انتحرت تلكم القوى السياسية والاجتماعية المعارضة للشاه يوم أن اختارت التحالف مع الخميني ضد عدوها السياسي؛ لأنها تغافلت عن أجندة الخميني السياسية والتي لم تك بخافية عليها، ولم يقم هو من جانبه بإخفائها. ففكر الحميني السياسي كان واضحًا. فهو فكر ينادي بلا مواربة بولاية الفقيه. وما كان يدعو له، ويعمل على ترسيخه هو دولة دينية، لا يكتفي فيها رجل الدين بأداء دوره الديني وحسب، بل وأن يدير دفة الحكم السياسي من وجهة نظره، ولكن باسم الله. الفخ الإيراني والتهميش لقد سقطت إيران في الفخ إذن، حيث انتظمت خيوط السيطرة فيها بين يدي ثلة من رجال الدين. هم مسلمون، والشعب الذي يسيطرون عليه مسلم، فلا هو مجوسي ولا وثني. دعونا نضع الأمور على الطاولة. من هم الإصلاحيون؟ ومن هم المحافظون؟ بدون استثناء هم إيرانيون. ومسلمون. وحين اختلفت وجهتا نظرهم حول السياسات الإيرانية الواجب اتباعها في هذا الظرف التاريخي، وفي ظل التعقيدات الدولية الراهنة، انتصرت وجهة نظر الإصلاحيين. وبناء على ماذا؟ انتصرت وجهة نظرهم بناء على سلطة المرجعية الدينية الشيعية المتمثلة في “خامنئي” المرجعية الشيعية الأولى. إلا أن ذلك تم وبتهميش تام لسلطة الشعب. إلا أننا وببساطة نرى الأمور على غير هذا النحو، وعلَّ بعض الفئات الإيرانية تراه معنا على نحو ما نراه. في هذا الصراع غير المتكافئ بين القوتين السياستين تبدو الغلبة المنطقية إلى جانب الإصلاحيين، لأنهم يحاولون وضع أقدام الدولة الإيرانية في المسار الدولي الصحيح والتعاون مع المجتمع الدولي والتفاعل الإيجابي مع المستجدات الدولية المعاصرة. ولا بد لإيران أن تتخذ الخطوات الإصلاحية اللازمة، لا لتجنيب فقط النتائج السلبية لهذا العناد، بل وأيضًا لتتواصل مسيرة رقيها، وخاصة وسيف التهديدات الأمريكية مسلط على رأسها كواحدة من دول ما تسميه أمريكا بمحور الشر العالمي. ورغم أن كل الأسس المنطقية تقف إلى جانب وجهة نظر الإصلاحيين، إلا أن الغلبة الفعلية والحقيقية ترجح كفة طبقة رجال الدين المحافظين. مكمن الداء الإيراني **************** هذا هو المأزق الإيراني الحقيقي، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يتهدد إيران أكثر من الخطر القادم من أمريكا، لأن الأخيرة لا يمكنها أن تفعل شيئًا في بلد نسيجه الاجتماعي والسياسي متماسك بشكل قوي. نعم تستطيع أمريكا تنفيذ تهديداتها باستخدام القوة ضد إيران، وإسناد المهمة لإسرائيل في حال فشل أمريكا في الحصول على إجماع دولي كما حدث في العراق، إلا أنها لن تنتصر في إيران، لأنها فشلت في السيطرة على الأوضاع الأمنية في العراق رغم أن كل ما قيل ويقال عن سطوة وسوء نظام صدام حسين. إلا أن اهتراء نسيج المجتمع والدولة في إيران سيؤدي إلى تفكك الدولة وانفجارها من الداخل. وحين نحاول التعرف على مكمن الداء الإيراني، سنجد أن عقدة المشكلة تكمن في السماح لرجال الدين بلعب الدور السياسي الرئيسي في إدارة شؤون البلاد، وهو ما يعرف في الأدبيات الفكرية السياسية بـ“ولاية الفقيه”. وإذا كانت ولاية الفقيه في الفكر الإسلامي الشيعي تعتبر واحدة من المرتكزات الأساسية المكونة لذاك الفكر، إلا أن عدواها انتقلت إلى الفكر السني بعد النجاح الباهر لثورة الخميني الإسلامية على الحكم الشاهنشاهي في إيران. إذ أخذت بعض الفعاليات السنية الدينية سواء في المملكة أو في غيرها من الدول الإسلامية تتبنى هذا التوجه، الأمر الذي أتاح لها أن تلعب أدوارًا سياسية وصلت إلى ما وصلت إليه الآن. والآن، وحسب التقرير الإخباري الذي صاغه ستيفان سميث وريتا ضو من إيران ونشره موقع إيلاف يوم 24/12/1424هـ فإن عددًا كبيرًا من الشبان الإيرانيين يشعرون بالخيبة من سنوات حكم الرئيس محمد خاتمي، والتي كانوا يعلقون عليها آمالًا كثيرة، وأنهم الآن يبدون لامبالاة واضحة تجاه ما يجري على الساحة السياسية والانتخابات التشريعية، التي ثار جدل طويل حول آلياتها، رغم تأثير هذه الانتخابات المتوقع على مستقبلهم، إلا أنهم يشعرون بالخيبة والإحباط من الوضع برمته، وهم الذين كانوا أكثر حماسًا للخط الإصلاحي من قبل وصوتوا لصالحه مرتين عله يفتح أمامهم أبواب الأمل. إلا أن تمركز السلطة في يد رجال الدين أو الفقهاء حال دون تحقيق برامج الإصلاحيين، وهذا ما أدخل إيران في هذه الدوامة التي لا يبدو من أمل للخروج منها. فخلاصة الدرس: إن إيران سقطت في الفخ، وكل قواها الاجتماعية والسياسية سقطت في الفخ يوم أن أسلمت مفاتيح الدولة لقواها الدينية، ليس بسبب فساد هذه القوى، ولكن لأن السلطة السياسية يجب ألا تسلم لطبقة اجتماعية ما، لا لدينية ولا لغيرها، ولكن يجب أن تكون في يد قوة اجتماعية غير منهمكة في الصراع من أجل السيطرة على القوة
مشاركة :