الشارقة: محمد ولد محمد سالم يلح الكثير من المتحدثين في الشأن المسرحي الإماراتي على ضرورة إحداث تواصل أكبر بين أجيال الفنانين، كوسيلة لتطوير العمل المسرحي وتحفيز المواهب الشابة للعمل، ورفدها بالمفاهيم الصحيحة عن الفن، وحتى يكون الارتباط به هماً وإحساساً دائماً يعيش معه، ولا ينفصل عنه، ويرى أصحاب هذه الدعوة أن إحدى أهم العوائق التي تحول دون مواصلة الشباب العمل المسرحي، وتحولهم السريع عنه إلى غيره، هي كونهم لم يجدوا التوجيه اللازم والرعاية التي تغرس فيهم الفهم الصحيح للمسرح، كوسيلة للوعي والتثقيف، وكرسالة لخدمة المجتمع والإنسانية، وأداة للتطوير الحضاري، وفي غياب هذا الفهم أصبح سهلاً على الشباب الذين ينخرطون في تجربة العمل المسرحي أن يتحوّلوا عنه بسرعة حين لا يجدون فيه ما يبحثون عنه من النجومية والمردود المادي. يظهر تاريخ المسرح الإماراتي إلى أي حد عانى الرواد الأول من أجل غرس هذا الفن في بيئة لم تكن مهيأة له، وفي الغالب لا تحبذه وتنظر إليه بريبة باعتباره شيئاً دخيلاً عليها، يسعى لإفساد أبنائها، ولم تكن هناك مسارح أو قاعات عامة مخصصة للمسرح يمكن أن يعملوا فيها، فكانوا يلجؤون إلى منازل أهلهم، وفي بعض الأحيان - وحسب شهادة سابقة للدكتور سعيد حداد وهو أحد رواد المسرح في مدينة كلباء- كان رب الأسرة يطردهم من البيت إن ارتاب في عملهم، أو يأتيهم من الخارج من يرميهم بالحجارة، ليتركوا ما يقومون به، وكان كل الذين ينخرطون في المسرح في تلك الفترة هم من الشباب الفتيان من أبناء المدارس الذين ليست لهم كلمة أمام الرجال البالغين، خاصة أنه في مجتمع أسري مترابط يعتبر كل رجل في الحي بمثابة الوالد لأبناء الحي جميعاً، ويحق له أن يطردهم ويحرمهم من القيام بما يريدون القيام به تحت ذريعة التوجيه والإرشاد إلى العمل الصالح، لكنّ أولئك الشبان صمدوا وعملوا بجدٍّ، وصنعوا مسارحهم الخاصة، وجهزوها بوسائلهم المتواضعة، في وقت كان فيه التمويل معدوما، ويروي الفنان مرعي الحليان: كيف كانوا - وهو من هؤلاء الشباب - يجهزون خشبة المسرح، حيث يتكفل واحد بالإتيان بالأعمدة، وآخر بالقماش الذي تصنع منه الستارة، وثالث بحبال للربط، ورابع بلمبةٍ، وهكذا حتى يجمعوا تلك الضروريات، ثم يبدؤوا في العمل بأيديهم، ويصلوا الليل بالنهار حتى يجهزوا مسرحاً، ثم يعرضوا عليه بكل حب وتفانٍ مسرحيتهم، لكنهم بعد العرض ينسون كل تلك المعاناة والتعب، لأنهم يفوزون بتعاطف الجمهور وحبه. كان أولئك الروّاد على حداثة أعمارهم مسلحين بعشق راسخ للمسرح، وإدراك عميق لقيمته كأداة تنوير وصناعة للوعي في ذلك المجتمع التقليدي الذي فتحوا أعينهم عليه، لذلك تشبثوا بالعمل وجعلوا الاستمرار والطموح أساس أدواتهم للنجاح، واختاروا في مسرحياتهم الموضوعات التي تمس المجتمع، وتتناول قضاياه، وتطرح مشكلاته على بساط التشريح والنقد والبحث عن حلول ناجعة في المستقبل، ويصف الكاتب إسماعيل عبد الله، وهو أحد رواد مسرح خورفكان، كيف كانوا يطرحون تلك القضايا ويناقشونها ثم يعمدون إلى كتابتها، وكيف كان وعيهم يسبق وعي المجتمع ويرتاد آفاقاً جديدة، وكيف أنهم منذ البداية اختاروا أن تكون موضوعاتهم وطنية ومن إنتاجهم، لأن ذلك أقرب إلى الجمهور، ولأن النصوص المنتجة في مجتمعات أخرى لا يمكن أن تتطابق تماماً مع المشكلات التي يريدون طرحها. الوعي بمفهوم ودور المسرح، واللحظة الحضارية التي يعيشها المجتمع، والإصرار على العمل هي بالمجمل العناصر التي جلبت للمسرحيين الرواد النجاح، وأكسبت المسرح شرعية في الإمارات، وأعطته جمهوراً متزايداً في ذلك الوقت، ما جعله يسهم بقسط وافر في صناعة الوعي والتطوير الثقافي في الإمارات، وهذه العناصر هي ما يحتاج إليها المسرحيون الجدد لكي يبدعوا ويصنعوا مسرحهم الخاص بهم وبلحظتهم الحضارية الراهنة، وهم من أجل ذلك يحتاجون إلى الرعاية والتوجيه من طرف الرواد، رعاية وتوجيها من أجل غرس تلك القيم في نفوسهم، وجعلهم يؤمنون بها، ويعملون بها، وجعلها تتفوق لديهم على كل الدوافع الأخرى، وما أكثر تلك الدوافع الأخرى، فلا يكفي مجرد حب المسرح والميل لممارسته، بل لابد من القناعة بدوره والاستعداد للتضحية من أجله، وسيكون دور المسرحيين الرواد هنا بالغ الأهمية لأنهم يشكلون القدوة لأولئك الشباب الطامحين للدخول إلى فضاء المسرح، ويمكن القول: إن هذه الرعاية موجودة بشكل ما اليوم، وهناك مسرحيون مخضرمون يقومون بأعمال تصب في هذا الإطار، هذه حالات نادرة، وتحدث في مناسبات متباعدة، والمسرح كما قدمنا يحتاج إلى استمرارية، ويمكن للفرق المسرحية أن تقوم بهذا الدور، وهي في الغالب يديرها مسرحيون من الرواد أو من الجيل الثاني، ولو تبنت هذه الفرق مشاريع مسرحية مستمرة، على مدار السنة، لأمكنها من خلالها أن تنمي قدرات المواهب الشابة وأن تغرس فيهم تلك القيم الآنفة الذكر، والواقع أن الفرق الفنية اليوم يقتصر عمل جلها على المشاركة في المهرجانات المسرحية التي تقام في الدولة، وخارج ذلك تبقى معظم الوقت في حالة كمون، فلماذا لا يكون هناك نشاط مسرحي مستمر بشكل يومي سواء كان ورشة أو بروفة مسرحية يشرف عليه أحد الرواد، حتى ولو لم يكن ذلك بقصد العرض، ويقدم من خلاله خبرته وقناعاته المسرحية للأجيال الجديدة؟ هل تحتاج بروفة مسرحية إلى ميزانية كبيرة خارج طوق الفرقة؟ ألا يمكن استلهام العمل المتقشف الذي كان يقوم به مؤسسو المسرح بالأمس، والقيام بعمل مسرحي متصل دون الحاجة إلى تمويل خصوصا وأن البنى التحية لم تعد هي المشكلة المطروحة، لهذه الفرق، في ظل انتشار المسارح في الدولة واستعداد المؤسسات الثقافية لتسهيل العمل لمن يرغب فيه؟. إن التواصل بين الأجيال المسرحية ضروري لنقل الخبرة والوعي والقناعات، وهو سهل، لا يحتاج إلا إلى استعداد من الطرفين، وتخصيص القليل من الوقت من أجل ذلك التواصل، وتقع على عاتق الأجيال المخضرمة مهمة المبادرة، ووضع برنامج لهذا التواصل، واعتباره واجباً اتجاه المسرح، والعمل الثقافي الوطني، وليس أجمل من أن يقال عن مسرحي شاب موهوب إنه تخرج من مدرسة الرائد فلان. يعيش الشباب اليوم في عالم كثير الجواذب والمغريات، وهم يفتحون أعينهم أول ما يفتحونها على نجوم الدراما الذين يملؤون شاشات التلفزيونات في المسلسلات والأفلام، وتمتلئ بحكاياتهم والأحاديث حولهم صفحات الصحف والمجلات، ما يجعل هؤلاء النجوم يشكلون مثالاً للشباب يسعون إلى احتذائه، ويحلمون يوماً بأن يكونوا مثلهم، فالشاب اليوم يأتي إلى المسرح وعينه على التلفزيون، ويريد أن يكتسب من المسرح خبرة وتجربة تجعله قادراً على أن يتقدم إلى العمل الدرامي في المسلسلات والأفلام التلفزيونية، وهنا ربما تكمن صعوبة المسألة، مسألةِ إبقاء جعل العمل المسرحي ورؤية يعيشها هذا الشاب، ويتبناها كقضية حياة، وإقناعه بالدور الرائد للمسرح في توعية وتوجيه المجتمع، وهذه معضلة ليس من السهل حلها، إن لم نقل إنه مستحيل، نظراً للحجم الكبير للمغريات المادية والمعنوية التي تقدمها التلفزيون للشباب الحالم بالشهرة والمال، إذا ما قيست بتواضع إمكانات المسرح، وتواضع المردود المادي والمعنوي منه، في مجتمعات عربية باغتها التلفزيون والتكنولوجيا الرقمية، وهي لما ترسخ جذور المسرح في تربتها، فزعزعت غرسه وأطاحت بشجرته، أو كادت، عبر البدائل الكثيرة التي تقدمها عنه، حتى ولو لم تكن تلك البدائل في مستوى قيمة وتأثير المسرح، لكنها على كل حال جاذبة لمجتمعات تعودت الكسل، وصرْف النظر عن كل ما يثير التفكير، ويستدعي التأمل، واستبدلت به التهريج والسخرية، لكن هذا الواقع لا ينبغي أن يبث الإحباط في المسرحيين، ويزهدهم في عملهم، وفي العمل من أجل مستقبل المسرح، بل عليهم أن يظلوا مفعمين بالأمل الذي بدؤوا به مسيرة حياتهم، ويتشبثوا بقناعتهم بقيمة المسرح، وفاعليته، أداة تنويرية بديعة وقادرة على فعل ما لا يستطيع غيرها فعله، إذا ما أحسن استخدامها، وصَفَت رسالتها لإنسانية والإبداع، وأن يطمحوا إلى مستقبل يكون للمسرح فيه كلمته، وحضوره وازدهاره، وأن يعملوا لذلك بجد مثل ما كانوا يعملون في الماضي. إن أول خطوة من خطوات العمل لمستقبل المسرح هي إقامة تواصل دائم بين الأجيال المسرحية، فهو ضروري لنقل الخبرة والوعي والقناعات، والتواصل سهل، لا يحتاج إلا إلى استعداد من الطرفين، وتخصيص قليل من الوقت له، وتقع على عاتق الأجيال المخضرمة مهمة المبادرة بذلك، ووضع برنامج له، واعتباره واجباً تجاه المسرح والعمل الثقافي الوطني، وليس شيء أجمل من أن يقال عن مسرحي شاب موهوب، إنه تخرج من مدرسة المسرحي الرائد فلان، ومن حق المجتمع والوطن على الفنان المبدع أن يبذل شيئاً من وقته وخبرته في سبيله، فيتبنى الموهوبين من شبابه ويعلمهم أسرار المهنة ويغرس فيهم حب المسرح وقيمته.
مشاركة :