في تقرير عن الصحافة التلفزيونية في روسيا اعتبرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أن «التلفزيون في روسيا أقوى من الثلاجة» وقالت: «إن البرامج الحوارية تلعب دوراً كبيراً في السياسة الخارجية للكرملين»، إذ هي بمثابة «المنقذ» للرئيس فلاديمير بوتين في الأزمات التي يواجهها، بما فيها الأزمة الاقتصادية التي على رغم تفاقمها في البلاد لم تؤدِّ إلى أي تراجع في شعبيته، وهو ما ينطبق على الأزمة السورية، فقبل أسبوع من التدخل العسكري الروسي في سورية، كشف استطلاع أجرته وكالة «نيفادا» الروسية أن 14 في المئة فقط ممن استُطلعت آراؤهم أبلغوا «أن التدخل سيشعل الحرب الأهلية في هذا البلد»، إلا أن هذه النسبة تغيرت بعد أسبوع من الحملات الدعائية في محطات التفلزة الروسية إلى العكس تماماً مع إعلان 72 في المئة من الروس دعمهم التدخل». في تعليقهم على هذا التبدل السريع في الموقف والمزاج الشعبي العام، قال محللون روس في تصريح إلى الصحيفة الأميركية نفسها أن «التغيير في اختيار الكلمات من التدخل يعود إلى التضليل الذي مارسه التلفزيون بالترويج لمعلومات عن الحرب وتسويقها للجمهور بهدف جعلهم يؤيدونه»، ولكنهم نبهوا إلى أن «ما يحصل من دعم لبوتين لا يغير العقول، ولكنه مجرد دعم للمناخ العام». ذكر تقرير صدر قبل عامين عن منظمة «مراسلون بلا حدود» تحت عنوان «الكرملين في كل القنوات التلفزيونية: كيف تستخدم السلطة التلفزيون» أن «محطات التلفزة تخضع منذ سنوات طويلة وما زالت كذلك حتى الآن وفي شكل منظم لسيطرة الدولة»، لافتاً إلى «أن قنوات التلفزيون الكبرى هي إما تابعة لهولدينغ إعلامي حكومي، أو تعود ملكيتها إلى رجال أعمال محسوبين على بوتين أو شركات كبرى مقربة من الكرملين». ويكشف التقرير أن «الكرملين يمول محطات تلفزة موجهة للخارج» مثل (Russia Today) التي تبث برامج بلغات أجنبية متعددة وتبلغ موزانتها 263 مليون يورو. لا تتوقف محطات التلفزة الروسية عن الحديث عمن تسميهم «الفاشيون في أوكرانيا» و «العدو الأميركي». وفي ريبورتاج بثته محطة Russia TV الحكومية بعد اجتماع كان عقد بين بوتين والرئيسين الفرنسي فرنسوا هولاند والأوكراني بترو بوروشينكو في برلين، ظهر رجل يصرخ بالروسية: «بوروشينكو فاشي» من دون أي تعريف يوضح للمشاهدين هوية هذا الشخص، ما يوضح في شكل مثالي سياسة هذه المحطة التي تبث يومياً برامج تتحدث عن الفاشيين في أوكرانيا بصورة بذيئة خارجة عن الذوق العام، ناهيك بالسياسي والأخلاقي والتقاليد الصحافية. بناية بأعمدة الهلوسة السياسية نجحت محطات التفلزة الحكومية في فرض سيطرة تامة على مشاهديها والتحكم بمسارات تفكيرهم وتحديد مواقفهم وتصوراتهم وفهمهم القضايا والمسائل الداخلية والأوضاع الدولية عبر نشر الأخبار الملفقة وتقديم التحليلات التي تحرف حقيقة الأحداث الحاصلة على الصعيد العالمي. يقول أوستروفسكي: «تقدم التلفزيونات تفسيرات وتصورات معكوسة ومشوهة وكاذبة عن حركة الواقع، ومعطيات التطورات تميزت فيه حتى الآن الألعاب الإلكترونية أون لاين مثل «ريبورتاجات عن عمليات بطولية يقوم بها الطيارون الروس بتحليقهم في شكل منخفض للغاية فوق السفن العسكرية الأميركية، أو إطلاق الصواريخ من الغواصات الروسية من بحر قزوين على أهداف في سورية، فيما تخفي عن المشاهدين حقيقة أن هذه الاستفزازات يمكن أن تدفع الجانب الآخر إلى إسقاطها ما قد يتسبب في نشوب حرب نووية». يقول الخبير إيفان بافلوف: «الروس لا يهتمون كثيراً بمعطيات الواقع وحقائق الأحداث وطريقة تفسيرها وتقديمها»، ويلاحظ «أن غالبية البرامج في محطات التلفزة الروسية تقوم بمتابعة الأحداث والتطورات الدولية والإقليمية حتى قبل أن تحدث بالفعل وتقدمها بالطريقة التي تخدم مصالح الكرملين وتوجهاته». ويرى وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون العلاقات العامة والديبلوماسية ريك ستينغل في حديث مع «سي أن أن» أن «الإعلام الروسي يشن حملة دعائية منظمة فريدة من نوعها تعكس القوة الهائلة التي كان يبنيها عبر جهازه الدعائي طوال عقد من الزمن». وقال ستينغل الذي كان رئيساً لتحرير مجلة «تايم» أن «الروس كانوا طوال السنوات الماضية يبنون جهازهم الدعائي، وما نراه حالياً هو حصيلة مجهودهم لبلورة استراتيجية متطورة للبروباغندا». يمقت بوتين محطات التلفزة المستقلة ولا يتحمل وجودها حتى وإن كانت برامجها ليست عدوانية في توجيه انتقاداتها للسلطة الحاكمة، ولهذا فهو يتحين الفرص للانقضاض عليها وتقويض أي فرصة أمامها للنمو والتطور. محطة تلفزيون «ريين» كانت وفق المراقبين ومنذ انطلاقتها لأول مرة عام 2010، الأكثر استقلالية من بين جميع التلفزيونات المستقلة الأخرى، لكنها كانت الأكثر كرهاً من الكرملين الذي استغل وقوعها في فخ اوائل العام 2014، و ذلك حينما أجرت استطلاعاً تسأل فيه المشاهدين «هل كان على الروس الاستسلام للنازيين في الحرب العالمية الثانية عندما حاصروا لينينغراد (سانت بطرسبورغ حاليا) بغية إنقاذ حياة السكان الواقعين تحت حصار استمر ثلاث سنوات». إدارة التلفزيون تنبهت إلى هذا الخطأ وأسرعت بعد نصف ساعة فقط إلى وقف الاستطلاع، وقدمت اعتذاراً عما سمته «السؤال غير اللائق»، بخاصة أن الروس يتفاخرون بصمودهم أمام الحصار، ولكن ذلك لم ينفع في وقف سيل الضغوط الرسمية التي سببت خسارة المحطة لنحو ثمانين في المئة من تمويلها، كما أزيلت من شبكات الكثير من شركات تزويع القنوات (الكابلات). ووفقاً لما ذكرته مديرة القناة ناتاليا سنديافا لصحيفة «الغارديان» البريطانية فإن «المحطة لن نستطيع الاستمرار طويلاً بسبب غياب التمويل ونقص الإعلانات»، فيما قال نائب رئيس تحرير «ريين» أن «التلفزيون تعرض لضغوط هائلة استهدفت إغلاقه»، مشيراً في حديث مع الصحيفة نفسها إلى «الكرملين ينظر إلى وسائل الإعلام كأبواق للدعاية، ومن يتجرأ على لعب دوره الحقيقي كوسلة إعلامية مستقلة لا مكان له في سوق الميديا». نماذج الترويج والمكافآت المالية تعتمد محطات التلفزة الرسمية في روسيا نموذجاً فريداً في الترويج لقصص متخلية، وتقدمها على أنها من الواقع من خلال استخدام شخص مستعد لروايتها في الاستديو كشاهد من موقع الحدث مقابل مكافآة مالية بمئات عدة من الدولارات. ونشر موقع «دويتشه فيلله» الألماني مقابلة أجراها مراسله في موسكو يوري ريشيتو مع الصحافي الروسي والناشط في مجال الدفاع عن الحريات الصحافية رومان دوبروخوتوف تحدث فيها عن هذه الطريقة في نشر الأخبار والأحداث الكاذبة، وإحداها على سبيل المثل حكاية ليزا، الشابة الروسية التي تعيش في برلين، وبثت القناة الأولى لمحطة التلفزيون الروسي الوطني أنها تعرضت للاغتصاب على أيدي مهاجرين سوريين، وقال: «إن القنوات الروسية تنتج عدداً كبيراً من الريبورتاجات عن المهاجرين في أوروبا»، واصفاً إياها بأنها «مدافع إخبارية». ولفت إلى أن «الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية الإعلامية يتمثل في زعزعة استقرار ألمانيا، وإطاحة المستشارة أنغيلا مركل وإثارة مشاعر الكراهية ضد السوريين». يشارك دوبروخوتوف مع عدد من الصحافيين الروس المستقلين في هيئة للصحافة الاستقصائية (The Insider) التي تملك موقعاً إلكترونياً يحمل الاسم نفسه يزوره شهرياً أكثر من مليون قارئ، يتمول من الإعلانات ومن تبرعات من أشخاص يفضلون إخفاء هوياتهم لتجنب متاعب مع السلطة والأجهزة الأمنية. وتنشر المجموعة تحقيقات استطلاعية عن أوضاع السجناء السياسيين، وكيفية شراء محطات التلفزة الممولة من الدولة ذمم المهاجرين الروس في ألمانيا واستخدامهم نشرَ الأكاذيب والافتراءات داخل ألمانيا وعبر القنوات التلفزيونية.
مشاركة :