لم تنشأ الحركات اليمينيَّة المتطرِّفة، ونظيرتها اليساريَّة بين يوم وليلة، بل أخذت مدىً زمنيًّا حتَّى يكتمل نموّها، وتظهر إلى العلن، أو تطفو على السطح. والحوادث الإرهابيَّة المروِّعة التي شهدتها مؤخَّرًا بلادنا، ويأتي في مقدِّمتها إقدام أحدهم على قتل والدته، ومحاولة قتل والده، وإخوانه، ثمَّ استهداف المصلِّين، ورجال الأمن بالقرب من المسجد النبويّ الشريف، هذه الحوادث وسواها، لها خلفيَّاتها، وسياقاتها، فلقد شهدت التسعينيَّات الهجريَّة التقاءً بين تيارات الإسلام السياسيّ، والسلفيَّة المتشدِّدة، ولقد مثَّلت حركة جيهمان الإرهابيَّة، والتي كان زعيمها نفسه متلقِّيًا للفكر الإخوانيِّ على يد أحد الوعَّاظ المعروفين -آنذاك- نعم لقد مثَّلت صورةً بشعةً، ونبتةً مروِّعةً للمدى الذي بلغته تلك الحركة، التي انتهكتْ حرمة البيت المعظَّم، الذي كان يعظِّمه حتَّى الجاهليون الذين اندرست الأديان في ديارهم. وحتَّى نكون أكثر دقَّة، فلقد أخذت تلك الحركة أسوأ ما تمخَّص عنه الفكر القطبيّ، والذي يعترف المفكر محمد سليم العوا الذي يميل في بعض طروحاته لهذا الفكر، فهو شاهد عدل في هذه القضيَّة، حيث يقول: «ومن باب هاتين الفكرتين القطبيتين، دخلت إلى الفكر السياسي الإسلامي، وإلى العمل الحركي جميع أفكار المقاطعة، والتكفير والاستحلال، واستباحة الدماء والأموال، وعشرات النتوءات الفاسدة التي نُسبت إلى الإسلام ظُلمًا وزورًا، وشوَّهت صفحته الناصعة بخطايا أصحابها التي لا يزال المفكِّرون والفقهاء والدعاة يجاهدون لنفي صلتها بحقائق الإسلام»، انظر في النظام السياسيّ للدولة الإسلاميَّة، محمد سليم العوا، الشروق، ط1، 2006م، ص:333. • لقد كان الوعظ التحريضيّ والبعيد -كل البُعد- عن مقاصد الشرع الحنيف، وبتعاليمه الأساسيَّة هو المتسيِّد في دوائر التجمّعات الشبابيَّة آنذاك، فتلقَّفته وحاولت الانطلاق منه في سلوكيَّاتها المرفوضة، فهجر كثير من صغار السن منازلهم لدواعٍ لا تستوجب مطلقًا مثل ذلك الهجر، وتلك الجفوة مع الأهل والأقارب، مثل وجود التليفزيون في المنزل، وسماع بعض أنواع الموسيقى وسواها. لقد كانت أذهان أولئك الفتية بفطرتها مستعدة لتلقي ذلك التجييش الوعظي الذي لا يستند على قاعدة فقهيَّة. ويجب أن نقرَّ بأنَّ حوادث 1400هـ البشعة في بيت الله الحرام، كانت نقطة انطلاق، وحياة جديدة حتَّى وإن رحل المنظِّر الأكبر لهذا الفكر الظلامي، والبعيد -كل البُعد- عن جوهر تعاليم الدِّين الخاتم، بوسطيّته، واعتداله، وتسامحه. • ثمَّ كانت انعطافة هامَّة أخرى، فلقد كشف هذا الفكر عن عدائه للدولة، بعد عدائه للمجتمع، وكان ذلك أثناء حرب الخليج الثانية، فلقد كان بعض مَن أفسحنا لهم في مجتمعنا، وأغدقنا عليهم من نعم الله، ما أغدقنا كانوا الأكثر عداءً لنا وبلغ ببعضهم الجهلُ المركَّبُ بأن رمونا بالكفر لمجرّد وقوفنا ضد الفكر البعثي، الذي اعتدى على إخوة لنا، وأشقاء، وعندما خُتمت فصول الجهاد الأفغاني، وبزغت حركة طالبان المتطرِّفة التي لم ترَ بأسًا من التعامل مع الغرب عند الضرورة، توجهت سهامها إلينا، وولدت خديجًا مشوَّهًا حمل اسم القاعدة، فكانت بلادنا ممَّن استهدفهم الفكر القاعدي بدمويّته التي لا تعترف بعصمة دماء مَن يقرّون بالوحدانيَّة لله وحده، وعندما خفَتَ صوتُ القاعدة، وجدنا من يحمل راية التكفير والتبديع والتفسيق، وحمل اسم داعش، ويتساءل المرء: متى يكون لدى أولئك المتعاطفين مع داعش سرًّا الجرأة ليكشفوا عن وجوههم القبيحة، وعلينا نحن -كمواطنين وموالين للقيادة والوطن- واجب البحث بين المنعطفات والسفوح عن هذه النبتة الشريرة؛ لاقتلاعها من أرض الإيمان. المدينة
مشاركة :