اُذكُر مصطلح الانفجار العظيم عند البعض؛ وستسمع ردوداً مثل: هذا ما يقوله الغرب وربما تُطعَّم العبارة بـالغرب الملحد لمضاعفة التنفير من ذلك المصطلح المشبوه! والواقع هو أنه مصطلح علمي يدرسه الفيزيائيون والفلكيون، وليس بمؤامرة! فالطبيعة وظواهرها ليستا مرتبطتين بالأشخاص والأجناس! كل ما هناك هو أن الطبيعة لا تكشف نفسها إلا لمن يدرسها! يعرف من عمل في البحث العلمي في الغرب أنهم من أكثر الناس تشكيكا في أي نتيجة علمية! فلا تجد الباحث يأبه لاسم العالم الذي خرج باستنتاج ما، بل تجده -في بادئ الأمر- يشكك في كل شيء! فمن الشائع أن تسمع عبارات مثل: ربما يوجد خطأ في الحسابات، أو في إحدى خطوات التجربة، أو في التفسير، أو أن البيانات غير كافية، أو ربما تكون إحدى الفرضيات خاطئة. وغير ذلك من سلسلة من الانتقادات التي تكون جارحة أحيانا. ولا يصدق أحدا النتائج حتى يتم إعادة إنتاجها من طرف مستقل! ولا يشيع تفسير ما أو يُقبل حتى يقر به جمهور الباحثين. هذه العادات ليست عادات غريبة، بل هي عادات علمية وتنشأ تلقائيا في أي مجتمع علمي. فالباحث -سواء أكان من الصين أو جنوب أفريقيا أو البرازيل أو السعودية- إذا أراد أن يصبح عالما؛ فعليه أن يقدم أبحاثه للنقد العلمي من الباحثين في مجاله. وكلما عظم الادعاء كلما زادت الحاجة لدليل قوي وإجماع بين جمهور الباحثين. وكم من ادعاءات عظيمة فندت بالنقد العلمي! أعود لمصطلح الانفجار العظيم، صحيح أن البعض من ذوي النزعة الإلحادية يستخدمونه لتبرير توجهاتهم، غير أن ذلك لا يعني أن القول بالانفجار العظيم يحمل في طياته الإلحاد. فهي ظاهرة يوجد اختلاف في تعريفها -كما سأبين لاحقا-، وتوجد لبعض جوانبها أدلة مقبولة بين جمهور الفيزيائيين والفلكيين. الانفجار العظيم هو مصطلح يحتمل عدة أمور. فالبعض يقصد به لحظة بدء الكون، وهي لحظة تنهار فيها قوانين الفيزياء المعروفة اليوم. ولكن هذه اللحظة هي تخمين علمي له مبرراته، وليست حقيقة مرصودة. وجود تلك اللحظة من عدمه هو أمر قابل للجدل العلمي. وقد يُقصد بالانفجار العظيم حالة الكون قبل ما يقترب من 13.8 مليار سنة، وذلك عندما لم يكن في الكون نجوم أو مجرات، ولا ذرات، بل جسيمات أولية وأشعة يتفاعل بعضها ببعض. وهناك، كان الكون ساخنا جدا وكثيفا جدا. ومع تمدده، انخفضت درجة الحرارة حتى تكونت الذرات وتحررت أشعة الضوء سابحة في الفضاء. وهذا يشبه ما يحصل عندما تهب عواصف الغبار علينا فتظلم السماء في النهار. فإذا انقشع الغبار؛ تحرر الضوء وانطلق في كل مكان. من أهم الأدلة على تلك المرحلة هو ما يسمى بالأشعة الكونية الخلفية. وهي أشعة تعم الكون، وتم رصدها في الأرض في الستينات الميلادية وحاز راصدوها على جائزة نوبل في الفيزياء. والانفجار العظيم بهذا المعنى هو أمر لا يوجد بين العلماء من يشكك فيه! وما يمكن التشكيك فيه علمياً هو تفاصيل المراحل التي تسبق الحالة التي وصفتها للتو. لذلك من المهم أن يفهم القارئ -وقبله الكاتب العلمي غير المتخصص- المفاهيم العلمية المجمع عليها وتلك التي ما زالت قيد الاختلاف. وأن يفهم درجات الادعاءات العلمية (فرضية، قانون، نموذج، نظرية علمية، حقيقة)، واختلاف التعريفات للمصطلح الواحد. وبمثل هذا الفهم، تصبح النقاشات في عالمنا العربي أكثر وعيا ونضجا، وبعيدة عن التشنج الذي يصاحب بعض المصطلحات العلمية التي تُربط جهلا بالإلحاد أو يشكك فيها بحجة أن من قالها هم الغرب! mbinjonaid@outlook.com
مشاركة :