الذين تمنّوا أن ينجح الانقلاب في تركيا تصرّفوا على نحو أحمق وأناني ورغائبي، فهم كمن يفرحون لحريق الشقة المقابلة لهم في البناية، ولا يعلمون أنّ الكارثة ستحلّ بمنازلهم عما قريب. الأيديولوجيا والانحيازات الضيّقة والاصطفافات تطغى على المصلحة العامة، حتى في بُعدها البراغماتي. انهيار تركيا يعني انهيار الإقليم برمّته، وسيادة التوحّش والعنف، وإنتاج المزيد من الطغاة. الانتحاريون ليسوا فقط من يفجّرون أنفسهم، هم أيضاً أولئك الذين ينظرون من ثقب الباب إلى العالم، ويفعلون ذلك بتلذّذ وهم يخاطبون خصومَهم: إلى الجحيم، غير عالمين بأنّ الجحيمَ هو ما تصنعه إرادتُهم الآثمة، وعقولهم الخالية من الحكمة والأخلاقيّة والرحمة! الانتهازية بدت في مواقف الناس لحظة بدء توارد الأنباء عن الانقلاب الذي دُبّر بليل. كان ثمة إحساس عالٍ بالشماتة لدى كثر من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي الذين كانوا يعلمون أنّ مدبّري الانقلاب من العسكر، وأن التجربة العربية مع الانقلابات المماثلة لم تقد إلا إلى تصاعد الديكتاتوريات، وتعليق المخالفين على أعواد المشانق. فمن يتمنى أن يعود ذلك الزمان الأسود الذي ما انفك يقود بلادنا نحو الضياع والتمزق. وبمثل تلك الانتهازية تصرفت دول ظلت تنتظر على أحرّ من الجمر، وتبتهل لله أن ينجح الانقلابيون، وأن تتحوّل تركيا إلى دولة فاشلة. وهذه الدول من الإقليم نفسه، أي من سكان البناية الشرق الأوسطية ذاتها، ومع ذلك لم تتمكن العقلانية من هزيمة الدوافع الانتقامية المغلّفة بحسابات سياسية «أضيق من مرور الرمح في خصر نحيل»! وما أثار الانتباه في حادثة «الانقلاب الفاشل»، أنّ البشر كالدول تحركهم النزعات الكيديّة الموقتة، فلا يُبالون بالمصالح الاستراتيجية، وبأنّ السياسة مروحة واسعة من الخيارات، وأنّ الحكمة تُجانب كلَّ من يضع بيضاته في سلة واحدة. كان من المحتمل فهم شخص مدجّج بأحقاده وثاراته وانحيازاته أن يصرخ من أجل الانقلاب مهللاً: عليّ وعلى أعدائي، أما أن تبتهج دول، وتردّد القول ذاته، ففي ذلك من الرعونة ما يدفع إلى التشكيك في طموح تلك الدول للتحوّل إلى مجتمعات مدنيّة يحكمها القانون، وتُصغي لنداءات صناديق الاقتراع واستحقاقاتها باعتبارها أحد الخيارات الديموقراطية. جمعت التمنيات بنجاح انقلاب العسكر في تركيا أطرافاً كان من الصعب أن تجتمع من قبل، فكان المحدّق في شاشة الإنترنت، متصفّحاً الـ «فايسبوك» أو «تويتر» يرى شبيحة «بشار الأسد» والمعارضين لهم من مناوئي إيران وحزب الله ينطقون بلسان واحد، ويحلّقون بأخيلتهم وهي تصوغ سيناريوات «فظيعة» عما بعد حقبة أردوغان، فكيف يستقيم أنّ تكون ضد جزّار دمشق، وتدخلات إيران وعبثها في دول الإقليم، بخاصة الخليج، ثم تتقاطع مع أحلام هؤلاء، التي ستتحوّل إلى كوابيس بمجرد انبلاج فجر اليوم التالي؟! سنوافق القائلين بأنّ حقبة أردوغان أخلّت بالتوازنات العلمانية في الدولة التركية، وكمّمت الأفواه، وطاردت المخالفين (حتى من حلفائه) وضيّقت عليهم واعتقلت بعضهم، وتعاملت مع الأكراد على نحو فظ. وسننظر بشيء من المفارقة إلى ضيق أردوغان بوسائط التواصل الاجتماعي، ولجوئه مرغماً في لحظة الأزمة إلى «فايس تايم» من أجل مخاطبة شعبه ودعوتهم إلى النزول للشارع من أجل مواجهة الانقلاب. سنقول في أردوغان ما لم يقله مالك في الخمر، لكنّنا نعلم أنّ أردوغان قنطرة في درب طويل خاضته وستواصل الدولة التركية التي اختار شعبها، بمطلق حريته، ممثليه في البرلمان وفي السلطة، وهو الوحيد الذي يحقّ له أن يتراجع عن خياراته بالطريقة الديموقراطية ذاتها. الانقلاب يتعيّن أن يكون من إرث الحقب السوداء المنصرمة، ولا يجوز تسويقه على أنه خيار يستبطن مصلحة الشعب، ففي ذلك مصادرة أبويّة على قرارات الجماهير، وفيه توطين لمفاهيم استبدادية بائدة. كما أنّ فيه مقامرة بالمستقبل، فماذا ستقول لأبنائك ومواطنيك إن كنتَ تسوّق لهم الاستيلاء الإكراهي على الحكم باعتباره خياراً ديموقراطياً، وهل أنتم محصّنون من تجرّع العلقم ذاته؟!. * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :