ثلاث ساعات ونصف الساعة تقريباً هي المدة الزمنية التي استغرقتها محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، بين إعلان بيانه الأول وإعلان فشله رسمياً.. وبالعودة إلى مجريات الأمور في هذه الساعات القليلة وما تلاها، ومواقف الأطراف التركية صاحبة الأزمة أصلاً، والأطراف العربية المنشغلة بالأزمة عرضاً، تتكشف لنا جملة من الحقائق: أولها: أن ما يجري كان مفهوماً تركياً باعتباره محاولة انقلاب جديدة على الديمقراطية، استكمالاً لمسيرة انقلابات امتدت لنصف قرن خلت، فانقسم الأتراك حيال ذلك إلى مؤيد للديمقراطية ورافض لها.. لكن عربياً، صُوِّرَ الأمر باعتباره رغبة من الجيش في التخلص من أردوغان، فانقسم جل العرب تقريباً حيال ما يجري إلى مؤيد لأردوغان ورافض له. إزاء التصور التركي للأزمة وقفت الأحزاب العلمانية المعارضة ضد محاولة الانقلاب في ساعاته الأولى. "كمال كليجدار أوغلو" زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض، الذي أسسه أبو العلمانية التركية كمال أتاتورك، رفض الانقلاب، لأنه -حسب قوله- يقوِّض الجمهورية التي لم تأتِ على طبق من ذهب، بل بنيت بالدم والدمع والألم. وموقف "كليجدار" هذا تحديداً جدير بالتوقف عنده، فالرجل قبل ثلاثة أيام فقط من محاولة الانقلاب، كان يواجه تحقيقات بتهمة إهانة الرئيس أردوغان، ومُلاحق بالسجن أربع سنوات، وبدفع غرامة تصل إلى 30 ألف يورو! مثله كان موقف "دولت بهجلي" زعيم حزب الحركة القومية العلماني، و"إدريس بالوكان" نائب رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، اللذين اعتبرا أن تركيا سترسل الانقلابات العسكرية إلى مزبلة التاريخ. هكذا من حيث المبدأ.. كان العلمانيون الأتراك المعارضون لأردوغان يرفضون الانقلاب على نتائج الديمقراطية التي جاءت به رئيساً، لا يرضيهم. وهكذا أيضاً من حيث اللامبدأ.. كان المعارضون العرب لأردوغان يتخندقون بوقاحة خلف انقلاب عسكري، يمتطي صهوة دبابات وطائرات، تطيح بإرادة وأرواح الشعب التركي، في وصمة عار أخلاقية. ثانياً: وُجهت أصابع الاتهام رسمياً في تركيا لحركة فتح الله غولن بوقوفها وراء الانقلاب، ورغم أن الحكومة لم تقدم -حتى كتابة هذا المقال- أدلة ملموسة على صحة الاتهام، لكن احتمالية تورطها ليست بعيدة، وثمة مؤشرات تدفع لصحته. وغولن بالنسبة لأردوغان هو صديق الأمس عدو اليوم، وقد كان حليفه الأوثق، الذي شكل له رافعة مهمة مهدت لصعوده في سلم السلطة. وفتح الله -لمن لا يعرف- داعية إسلامي صوفي، أسس حركة الخدمة التي لاقت انتشاراً واسعاً في تركيا وخارجها منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وله مؤلفات بلغت ستين كتاباً، أغلبها في التصوف الإسلامي والتدين، والتحديات التي تواجه الإسلام اليوم. ولئن كان أردوغان سعى لأسلمة تركيا دون إعلان، فإن كولن قد أعلن ذلك صراحة حين قال إنه سيتحرك ببطء لتغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني إلى نظام إسلامي. هكذا يبدو -على الأقل وفق المعلن من أدبيات الحركتين- أن ثمة صلة رحم أيديولوجية بينهما، غولن المتهم بالانقلاب، وأردوغان المنقلَب عليه.. وبينما كانت نيران الإسلاميين تأكل بعضها بعضاً في تركيا، على خلفية جماعة تدافع عن الديمقراطية، وأخرى تنقلب عليها، كانت غالبية لا بأس بها من إسلاميي العرب ينظرون للانقلاب كمحاولة غربية لاستهداف الإسلام الصاعد في دولة العثمانيين، وليس كمحاولة انقضاض على تجربة ديمقراطية منحت أهلها استقراراً واستقلالاً وطنياً يهدد بخروجهم -ولو خروجاً محدوداً- عن بيت الطاعة العالمي. ولذا صور كثير من إسلامي العرب فشل الانقلاب لاحقاً باعتباره نصراً للإسلام على الكفر، وللإيمان على العلمانية. أي أنه حين انقسم الإسلاميون الأتراك بين مؤمنين بالديمقراطية وكافرين بها، كان جملةً من الإسلاميين العرب يقسمونهم بين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر. ثالثاً: بدا الإعلام التركي المعارض باحثاً عن الحقيقة، لا بل داعماً لرئيس متهم بالتضييق عليه، فظهر أردوغان على شاشة "سي إن إن" التركية المعارضة عبر برنامج فيس تايم، وهي مكالمة كان لها مفعول السحر في مجريات الأمور على نحو أفضى لاحقاً لفشل الانقلاب.. وفي مقابل ذلك كانت وسائل إعلام عربية دولية ومحلية باحثة عن الشماتة لا عن الحقيقة، فصنعت من أمنياتها الرخيصة حقائق وأخباراً، فظهر على شاشتها أطروحات ما بعد أردوغان، الهارب في طريق اللجوء إلى ألمانيا. بحث الإعلام التركي المعارض عن الحقيقة فصنع خبراً وكتب تاريخاً، وبحث الإعلام العربي المعارض عن الشماتة فألف خبراً. رابعاً: هل يعني هذا أن تركيا دولة نموذج في الديمقراطية؟ الإجابة ليس بعدُ، لكنها قطعت شوطاً كبيراً في الطريق إليها، وهي إلى الآن تقدم نموذجاً مغرياً للعرب -إن كانوا حقاً يغارون- على ديمقراطية علمانية تُحَيِّد الدين ولا تصادمه. ولأنها ديمقراطية مهددة لا راسخة، يصبح منطقياً وقوف الأتراك المعارضين لأردوغان وحتى العرب، ضد تحركاته "السلطوية"، بعد وقوفهم ضد الانقلاب عليه. لكنه منطق مرفوض في نظر المؤيدين العرب لأردوغان، الرافضين أي معارضة له، حتى لو كانت ضد عقوبات جماعية طالت الآلاف، وفيهم أبرياء بلا شك، حين وضعت السلطة حركة غولن بكاملها في سلة الانقلابيين الإرهابيين. وموقف هؤلاء العرب المؤيدين لأردوغان -وهم المكتوون بنيران الاستبداد- قد لا يفسره سوى مقولة عالم الاجتماع العربي الشهير ابن خلدون التي يقول فيها "إن المقهور غالباً ما يسلك سلوك القاهر".. وهي مقولة أسست نظرية في علم النفس تسمى "التوحد مع المعتدي"، وتعني أن المقهور -حين تأتيه الفرصة- قد لا يتورع عن ممارسة نفس سلوكيات قاهره! أخيراً: لئن كان العرب مغرمين بوضع الناس في فُسْطاطَيْنِ، بعدما رفعت غالبيتهم راية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن "من ليس معي فهو ضدي"، وهو بالمناسبة منطق مختل فكرياً لا يدرك طبيعة النفس البشرية ولا تشعباتها وتداخلاتها نفسياً واجتماعياً وإيديولوجيا، ومختل سياسياً لا يدرك تعقيدات وتشابك المشهد عالمياً وإقليمياً ومحلياً. لكن أقول لئن كان العرب مضطرين لذلك، فليكن هذا التقسيم إلى فسطاطين مبنياً على موقف مبدئي قيمي من الديمقراطية قبولاً أو رفضاً. إذ إن العرب يحتاجون اليوم أكثر ما يحتاجون إلى تحالف دعم الديمقراطية، وقد يكسبون حينها جولة في طريقها، لأن جيوش العالم لا تستطيع هزيمة فكرة جاء زمانها، كما يقول أديب فرنسا وشاعرها الكبير فيكتور هوجو، وأزعم أن هذا الزمان -بالنسبة للعرب- هو زمن الديمقراطية التي يعانون المرار بغيابها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :