الشارقة: محمد أبوعرب كثيرة هي المعارض الفنية التي اشتغلت على مفهوم التنوع الثقافي والحضاري في الإمارات، وقدرة الفعل الفني البصري على تحقيق التجانس والحوار، إذ يمثل مفهوم التعايش والتنوع إحدى الركائز الأساسية التي تشكل ملامح البنية الاجتماعية الإماراتية، الأمر الذي يجعله دائماً ضمن انشغالات الفنانين والمعنيين بالشأن الثقافي بكل أشكاله. تنكشف في هذا المساحة الكثير من الجهود التي تطرح رؤى جديدة في معالجة الواقع المحلي، فتظهر جهود بعض الفنانين في اللوحة التشكيلية، والفنون المعاصرة في الفيديو آرت، والأعمال التركيبية، إضافة إلى مختلف الأعمال الفنية الفوتوغرافية التي ظل الشارع الإماراتي مادتها الخصبة لتحقيق أعلى مستويات التعبير عن التعايش والتنوع الثقافي في الدولة. واحدة من الجهود اللافتة في هذا السياق ما قدمه مركز مرايا للفنون في الشارقة، إذ استضاف معرضاً فنياً جماعياً تحت عنوان في الحركة بركة جاء بالتعاون مع مبادرة استكشاف عربي في دورتها الثانية، فقدم سلسلة من الأعمال الفنية المتنوعة في الرؤى، والتقنيات، والمدارس، والامتدادت الفكرية، والبصرية لكل فنان، إلّا أنها تجتمع تحت هاجس تجسيد حالة التنوع الثقافي والتعايش القائم في الإمارات. يكشف المعرض عن المزيج الغني من الثقافات التي تتواجد في الإمارات، وتأثيرها على الحالة الثقافية، حيث يترك الانتماء إلى مختلف أقطار العالم آثاره في أسماء العائلات، والأطباق المحلية، والعادات، والملابس، والموسيقى، والرقص، والممارسات الثقافية. بالاستناد إلى هذه الحالة الاجتماعية الخصبة، يوفر المعرض فرصة للفنانين المشاركين ليطرحوا رؤاهم في تلك المفاهيم، ويحولون الحالة إلى جملة من التمظهرات البصرية التي يمكن أن تعبر عن الواقع بكل تحولاته ومفارقاته، فتظهر جهود فنية حديثة، منها الأعمال التركيبية المفاهيمية، والصور الرقمية، والنحت، والرسوم التعبيرية المعاصرة. لا يطرح المعرض انشغالاته الفنية في الأعمال الفنية المعروضة وحسب، وإنما يتعامل مع فكرة السفر والتنقل كمشروع فني متكامل، فتشكل اختيارات الفنانين وتنوع مرجعياتهم، واحدة من صور التعبير عن مشروع المعرض. تتجلى في المعرض مسارات عديدة لأطروحات الفنانين، منها النمط المعماري، وقدرة المكان على تعميق العلاقة بين الإنسان وسيرته الثقافية التاريخية، ومنها الملابس والتنوع في الأزياء، وما يقابلها من بحث في مفهوم الهوية البصرية، إضافة إلى الغذاء، وعلاقته بالجغرافيا، وأنواع البيئات: بحرية، جبلية، صحراوية، وغيرها. يعمل الفنانون في تلك المسارات بما توفره الساحة الإماراتية، فينطلقون من رؤية واضحة تجاه المكان، وقدرته على تحقيق التجلي الواضح لفكرة الاختلاف والتنوع الثقافي، وما يقابلها من مفاهيم التعايش، فيقدم بعض الفنانين المشاركين جهداً واضحاً في تجسيد الأبنية والعمائر، والاشتغال عليها بتقنيات تكنولوجية حديثة، تتجاوز الحذف والإضافة، إلى التركيب، والتكرار. يفتح الفنانون بذلك الباب على العنوان الذي ينطلق تحته المعرض الحركة بركة فهو إشارة واضحة نحو مفهوم الهجرة، وضرورتها لكسب الرزق، وفي المقابل تحقيق الانفتاح على المختلف والمغاير، والخروج من الثقافة الواحدة إلى التنوع الثقافي بكل ما يشتمل عليه من غنى. يكشف هذا الطرح القائم على العلاقة بين الهجرة والمكان والجهد المبذول في تشييد الأبنية والعمائر، واحدة من المنطلقات الأصيلة التي شكلت رؤى الفنانين، إذ ظل المكان في النقد الفني محوراً جذرياً، يمكنه أن يختزل الذاكرة التاريخية والثقافة للإنسان، فمثلما قدم غاستون باشلار فتوحات معرفية في قراءة المكان، قال المنظر والشاعر الفرنسي، جان ليسكور: الفنان لا يبتدع أسلوب حياته، بل يعيش بالأسلوب الذي يبدِع به... إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر. تحيل كل هذه الطروحات حول المكان، القارئ للعمل الفني، وجذوره الفكرية، إلى مجمل المسارات التي تشكلت منها رؤية المعرض، إذ لا يمكن لكل هذه الأفكار أن يتم التعبير عنها من دون المكان، فأي نمط غذائي يمكن أن يأخذ هويته من دون المكان الذي يؤصل له، وكذلك الحال في الأزياء والملابس، وغيرهما من أشكال التعبير عن تنوع الهوية.
مشاركة :