وقع الانقلاب العسكري في تركيا بصورة مفاجئة، وانتهى بصورة مفاجئة أيضاً، فلم يستطع العيش يوماً واحداً، بل قُضي عليه خلال ساعات، وهذا يؤكد أن تركيا قد ودعت الانقلابات العسكرية منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، وبالأخص بعد تشريع تعديلات دستورية على وظيفة القوات المسلحة، وجعلها حماية الحدود الخارجية، وليس التدخل في الشؤون السياسية الداخلية، ولا حماية العلمانية الأتاتوركية، بحسب نصوص الدساتير السابقة، فلم يعد من صلاحيات الجيش التركي التدخل في الحياة السياسية الحزبية والحكومية والبرلمانية، ما دام أنها في نطاق العمل القانوني، فلم يعد الجيش يتدخل لأسباب أيديولوجية، أو لفرض رؤية فكرية معينة، وفشل الانقلاب مساء الجمعة 15 يوليو/تموز 2016 يؤكد أن الجيش التركي مقتنع بوظيفته الجديدة، وأنه ليس ضد التعديلات الدستورية التي تمت عام 2010 على وظيفة المؤسسة العسكرية ودورها في حماية الجمهورية التركية من أعداء الخارج. لم يكن الانقلاب الأخير في تركيا انقلاباً محلياً فقط، فثمة أطراف دولية وإقليمية لم تكن تتمنى فشله، إن لم تكن مشاركة فيه، ودون الخوض في أسماء تلك الأطراف الدولية والإقليمية، فلا بد من معرفة أنها ظنت- مخطئة- أن مصالحها انتهت مع الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية وحكومته، لأنه جاد في بناء تركيا الجديدة، ويريد أن يضع رأس تركيا بين رؤوس الدول الكبرى، فأردوغان وهو يبني تركيا الجديدة مع حزبه وشعبه الآن يطالب ألا يبقى مجلس الأمن خاصاً بخمس دول فقط، وبالأخص أنه ليس بينها دولة عربية أو إسلامية لتمثل نحو ملياري مسلم في العالم، فكيف يمكن إقامة مجلس أمن دولي عادل يتجاهل حقوق ملياري إنسان على الكرة الأرضية؟ من هنا يمكن تحليل أسباب الانقلاب بأنها مهمة، ولكنها إذا بقيت في مستواها المحلي فقط فإنها لا تفي الموضوع أحقيته، لأن الصراع الدولي على مستقبل تركيا ودورها الدولي والإقليمي القادم يقلق من يريدون الهيمنة على المنطقة والعالم الإسلامي دون مقاومة ولا ممانعة، من هنا التقت مصالح حركة فتح الله غولن مع القوى الدولية والإقليمية التي تتقاطع مصالحها مع هذه الجماعة، وهذا ليس أمراً طارئاً، بل تم التحضير له منذ سنوات، ولكن الحكومة التركية لا تملك قانونياً لتحاسب مواطناً تركياً على قناعته الفكرية ولا اتصالاته الخارجية، إلا إذا استخدمها فعلياً في الإضرار بالأمن القومي التركي، وهو ما أثبته هذا الانقلاب؛ إذ إن جماعة فتح الله غولن هي التي تزعمت هذا الانقلاب بالتخطيط والتنفيذ، ومن ثم فإن الاعتقالات التي تطول أتباع هذه الحركة أمر احترازي للتحقيق معهم، ومن ثم يُفرج عمن لم يتورط منهم بهذا الانقلاب الغاشم. أفرجت السلطات القضائية التركية، يوم الأحد 2016/7/24، عن ألف ومئتي (1200) جندي تركي، كانوا قد اعتقلوا بعد إخفاق الانقلاب الفاشل، وذلك لعدم ثبوت أدلة على تورطهم بالعملية الانقلابية؛ لا تخطيطاً، ولا تنفيذاً، ولا قتلاً لأحد من المواطنين، ولا قصفاً لأحد مقرات الدولة العسكرية أو المدنية، وإنما كان دورهم أنهم أُخرجوا من ثكناتهم العسكرية ليلة الانقلاب بحجج التدريبات العسكرية أو لمواجهة أعمال إرهابية، ولكنهم لم يكونوا يعلمون أنهم يشاركون في عملية انقلاب على الدولة التركية، بل إن بعضاً منهم بكوا في الشوارع عندما علموا أنهم مشاركون في عملية انقلاب على الدولة، فما كان منهم إلا أن انضموا إلى الجماهير الشعبية التي تقاوم الانقلابيين. لقد أجمعت كل البيانات التركية الرسمية على أن جماعة فتح الله غولن هي التي تقف وراء الانقلاب، وهذا جعل كل الوسط السياسي المحلي التركي يقف ضد الانقلاب، فكان الموقف المحلي التركي مجمعاً على رفض الانقلاب؛ لأنهم يعلمون أن جماعة الخدمة التي يتزعمها فتح الله غولن هي تنظيم محظور، بعد تورطها بمحاولتي انقلاب عام 2013، وبعد التحقيق مع بعض أعضاء تلك الجماعة المتورطين في الانقلابين السابقين أطلقت الدولة التركية اسم الكيان الموازي على هذا التنظيم؛ لأنه تغلغل في معظم مؤسسات الدولة الأمنية والمدنية والقضائية والأكاديمية وغيرها، وقد أصبحت من ذلك التاريخ تنظيماً إرهابياً بنظر المؤسسات الأمنية التركية، ولكن الحكومة التركية، والقضاء التركي، لم يتعرض لأحد منهم بالسوء؛ لأن الحرية الشخصية والسياسية مكفولة لكل مواطن تركي، سواء كان حزبياً أو غير حزبي، ولذلك فإن الاعتقالات التي تبعت الانقلاب لم تهدد وحدة الشعب التركي، بل قوَّتها، وجعلت اللحمة الشعبية مع الحكومة والجيش أقوى من ذي قبل. إن من أهم عوامل إخفاق الانقلاب هو معرفة الشعب التركي أن حركة فتح الله غولن هي من تقف وراءه، وبحدس طبيعي، أو بذكاء فطري، أو بخبرة عملية وتاريخية، أدرك الشعب التركي أن الدول الغربية تقف وراء هذا الانقلاب وتدعمه، وإن لم تظهر على الساحة الانقلابية، وبالأخص بعد فشله، فالشعب التركي تابع امتعاض القيادات الغربية من الحكومة التركية في الأشهر الماضية، وعلم أن دوافع الدول الغربية تتقاطع مع مصالح الكيان الموازي في تركيا، ولكن الموقف الرسمي التركي لا يريد فتح صراع علني مع هذه الدول لأسباب عديدة، فيكفي أن تكشف الدولة ضلوع غولن في الانقلاب، حتى يثبت أمام أمريكا- وهي الدولة المستضيفة له منذ عام 1998- بأنه مخطط فاشل، ولا يستحق من الغرب المراهنة عليه ولا دعمه، فالعلاقات التركية الأمريكية يجب أن تقوم مع الحكومات التركية المنتخبة من الشعب التركي فقط، وليس مع تنظيمات إرهابية تسعى للوصول إلى السلطة بالطرق الانقلابية وغير القانونية. لقد خلص الشعب التركي إلى أن الانقلاب قد وقع في تركيا بسبب وجود جماعة تسعى للسيطرة على مقاليد الأمور في تركيا بغير الطرق القانونية، ولا بالطرق الديمقراطية، وهي جماعة الخدمة التي انطلقت في تركيا قبل خمسين عاماً تقريباً بصفتها حركة تقدم خدمات للفقراء والمساكين من الشعب التركي، ولكنها تحولت مع الزمن إلى حركة مناوئة للحكومات التركية، وبالأخص بعد أن أصبح للحركة صلاتها السياسية بالدول الكبرى، وتقوم بنشاطات واسعة في أغلب دول العالم، فظنت أنها تستطيع أن تحكم تركيا دون أن ينتخبها الشعب التركي، لظنها أن الدول الغربية سوف تمكنها من السيطرة على تركيا لتقاطع المصالح بينها وبين مصالح الدول الغربية في تركيا، أو على الأقل لإضعاف تركيا من وجهة نظر غربية، وقد فشلت هذه المحاولة إلى غير رجعة إن شاء الله، ولكن مكمن الخطر في تركيا الآن هو في حركة الخدمة، كحركة سرية مرتبطة بالمشاريع الخارجية المعادية لتركيا، وليست معادية لحزب العدالة والتنمية وحكوماته فقط. والموقف الحكومي والشعبي لن يكون ضد من كانوا يشاركون في أعمالها الخيرية العامة، ولا في مدارسها وجامعاتها وشركاتها، ولا في أفكارها العصرية التي توصف بالتنويرية، فهذه أفكار لم يعترض عليها المجتمع التركي السني المعتدل، حتى لو وصفها البعض بانها أفكار منحرفة، ولكن مكمن الخطر هو في السلوك الفعلي لأتباع غولن مع غولن نفسه أولاً، وفي أخذهم بمبدأ التقية (السرية التامة وإظهار عكس ما يبطنون) ثانياً، فأتباع غولن من الناحية العملية أخذوا من التصوف كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي مغسله، أو كالريشة في الهواء يحركها كيف يشاء، فهم يعاملونه عملياً كمعصوم، أو أكثر من معصوم، وإن لم يكتبوا ذلك في كتبهم، وهذا يعرفه أتباعه المقربون منه، ولكنهم ينفونه بالمبدأ الثاني التقية، وهذه معتقدات حركة الحشاشين التاريخية، وهذه خطورة لا بد من التنبه لها أكثر في تركيا وفي الدول العربية والعالم الإسلامي. إن يقظة الجيش التركي ورفضه للانقلاب، وشجاعة الرئيس أردوغان والحكومة الشرعية بكل وزرائها في مقاومة الانقلاب، وبطولة الشعب التركي ومقاومته لدبابات الانقلابيين في الشوارع، ووقوف أحزاب المعارضة إلى جانب الحكومة الشرعية ورفض الانقلاب سياسياً، ووقوف الإعلام التركي إلى جانب الشعب والحكومة الشرعية والجيش وضد الانقلاب، ووقوف الدول العربية الصديقة مع الشعب التركي وحكومته الشرعية، كل ذلك كفيل أن ينير طريق المستقبل الأفضل لتركيا، وهو ما يعني أن تداعيات الانقلاب على السياسة التركية في المستقبل هي أنها سوف تزداد قوة؛ داخلياً وإقليمياً ودولياً، وبالأخص في تأييد القضايا العربية والدولية العادلة، وإن الشعب التركي سائر في طريقه لبناء تركيا الجديدة، وأن الشعب التركي عرف صديقه من عدوه، فقد كان الشعب العربي بالكامل مع الشعب التركي، ولا يمكن أخذ العينات النادرة على أنها تمثل الشعب العربي، حتى لو كانت تحت أيديهم وسائل إعلام كبيرة! الخليج اون لاين محمد زاهد جول
مشاركة :