ربما تكون إحدى أهم النظريات الحديثة المتعلقة بالاقتصاد الكلي macroeconomy، وهي تلك التي وضعها الاقتصادي البارز «ميلتون فريدمان» (1912- 2006)، قد فقدت بريقها الآن بعض الشيء. وقد تكون في طريقها إلى مجاهل النسيان. ويمكن أن تكون لهذا أيضاً تداعياته المؤثرة على أسلوبنا في التفكير المتعلق بوضع السياسات الاقتصادية والمالية. وتُعرف هذه النظرية باسم «فرضية المدخول المتواصل» PIH، وقد أدرجها فريدمان كمادة أساسية لبحث أكاديمي قيّم أنجزه عام 1957، وما زالت تحتفظ بقوتها وتميزها في الوسط الأكاديمي. وتؤكد هذه النظرية أن استهلاك الناس من المواد المختلفة لا يعتمد على مستوى كسبهم في هذه الأيام، بل على ما يتوقعون كسبه خلال فترة حياتهم كلها. ويقول فريدمان في نظريته: «إذا لاحظت ذات مرة أن المال بدأ في التهاطل على محفظتك، فلن تسرع إلى إنفاقه كله، بل ستفكر في إيداعه في حسابك البنكي. أما لو حصلت على ترقية وظيفية، فستبدأ بزيادة إنفاقك المالي الشهري لأن هذه الزيادة تُعدّ مؤشراً على أن قدرتك على الكسب قد ارتفعت على المدى البعيد». ولهذه الفرضية المتعلقة بالسلوك البشري نتائجها الهائلة أيضاً على السياسة الاقتصادية. وإن كان ما يقوله فريدمان صحيحاً، فإن «فرضية المدخول المتواصل» تعني أن فعالية التحفيز المالي ستكون أضعف بكثير مما كان يعتقده الاقتصاديون في ستينيات القرن الماضي. ولو تخيلنا أن الحكومات حاولت الرفع من معدلات الإنفاق بإرسال الهِبات المالية إلى الناس عبر البريد الإلكتروني، فسيفضل هؤلاء إيداع أموالهم في البنوك بدلاً من التوجّه نحو زيادة الإنفاق. وهذه الفرضية مهمة إذن في توجيه السياسات المالية. ولهذا السبب، نلاحظ أن العديد من النظريات الأكاديمية تم وضعها استناداً إلى «فرضية المدخول المتواصل». ويرى فريدمان أن المستهلكين يتجهون نحو تخفيض مستوى استهلاكهم لأنهم لا يرغبون بالوقوع في حالة الإفلاس. ومن الناحية النظرية، سيتجه الناس نحو الإنفاق في امتلاك الأصول المالية التي يمكنها أن تحقق لهم المكاسب خلال أزمات الركود وبما يجنبهم شدّ الأحزمة على البطون خلال الأيام العصيبة. وقد بلغت «فرضية المدخول المتواصل» من قوة الانتشار ما جعل كل النظريات التي تتعلق بالاقتصاد الشامل الحديث مبنيّة على أساسها. وتكرّس تلك النظريات الفكرة بمعادلة حسابية تدعى «معادلة يولير للاستهلاك» CEE ظهرت في الغالبية العظمى من النماذج الأكاديمية للاقتصاد الشامل خلال العقود القليلة الماضية، وهي النماذج التي تعتمدها معظم البنوك المركزية من أجل وضع أسعار الفائدة. وتُظهر هذه المعادلة أن مقدار ما تقرر استهلاكه اليوم بالمقارنة مع ما ستنفقه غداً يحدده سعر الفائدة المعمول به في البنوك. وهذا ما يجعل من غير المبالغة القول إن فرضية فريدمان تُعتبر بمثابة حجر الأساس في صياغة كثير من النظريات الحديثة للاقتصاد الكلي. ولسوء الحظ، فإن هناك مشكلة واحدة تعتريها، مفادها أنها نظرية خاطئة بكل تأكيد. ... المزيد
مشاركة :