إن التنظيمات السياسية والحركات المرتبطة بالإسلام السياسي والمتسمة بحمولات آيديولوجية عقدية، يمينية التوجه أو يسارية المعتقد والمنحى، تجنح في خطابها الإعلامي والترويجي إلى تعميق المفاهيم والمرتكزات الفكرية التي تقوم عليها، بصور، تتفاوت فيها النبرات، وتتعاظم فيها الروح الديماجوجية الفجة التي لا تحجب ما تنطوي عليه من النوايا المفخخة والسلوك الميكافيللي المراوغ. استنادا إلى الشواهد التاريخية فإن العصر الحديث اتسم بحالة الاستقطاب الحاد بين معسكري الاشتراكية والرأسمالية، الذي أفرز في صراعه «جيوب» حاولت أن تؤسس بها حضورا بسمات تأثير واضحة من ذلك الصراع الكوني الكبير، ولعل من أبرز التيارات حركة الإسلام السياسي وعلى قمتها «حركة الإخوان المسلمين». وبعيدا عن استقصاء نشأة هذه الحركة، والدوافع التي فرضتها، والأساليب التي انتهجتها من أجل تنزيل فكرتها على أرض الواقع، والإنزيمات التي حدثت في منظومتها الهيكلية، والأسباب التي كانت وراء ذلك، وغيرها مما هو بحاجة إلى بحث دؤوب لسبر أغواره. خدمة لواقع اليوم واستشرافا للغد، بعد أن أصبحت هذه الحركة مهددا حقيقيا للنسيج الاجتماعي العام في الوطن العربي والإسلامي. يقول علي حرب عن ظاهرة الاسلام السياسي، إن المؤسسين لهذه الحركة نماذج ثلاثة: لاهوتي متكلم يجتهد ويشرع، وداعية يفتي ويكفر، وجهادي يقتل وينفذ. إن الحمولة الدعائية والترويجية لفكر «الإخوان المسلمين» تقوم على مفهوم «أسلمة المجتمع» وإقحام الدين في أمور السياسة والحكم وقيادة الأمم وهو الثابت في أدبياتها، فبه استثارت الشعوب العربية، وحركت فيها أشواق الخلافة الإسلامية بغير وطاء واقعي يمهد لهذا الانقلاب المهول في حركة المجتمعات العربية، فقد ظلت حركة الإخوان المسلمين تنتهج العمل السري والعلني وسط الطلاب والتنظيمات النقابية، هدفها أسلمة السياسة، وتشكيل الواقع السياسي وفق منظورها الآيديولوجي، وقد تجلى ذلك في الصراعات والمؤامرات التي راحت ضحيتها الكثير من الأرواح البريئة». وتحملت عبء هذا الخطاب شخصيات معروفة في المشهد السياسي المعاصر، ظلت «تصدع» رؤوسنا وتعكر حياتنا بما تطرحه من أفكار ظلت حضينة العنف والتشدد والخروج على الحاكم، ومن بين هذه الشخصيات راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة أكبر الأحزاب التونسية من حيث التمثيل النيابي. ولهذا كانت دهشتي عظيمة أن ينزاح خطابه في مؤتمر الحركة الأخير، لصالح فصل العمل السياسي للحزب عن الأنشطة الدعوية، بحيث يتحول الحزب إلى شريك في العمل السياسي، على أن تتولى الجمعيات المدنية الشأن الدعوي. فمثل هذه المراوغة السياسية أمر اعتدناه فعندما سأل الأمير نايف رحمه الله الغنوشي ومن معه من الإخوان، هل تقبلون بغزو دولة الكويت؟ فقالوا أتينا لأخذ الرأي. وعندما وصلوا إلى العراق أصدروا بيانا بتأييد الغزو. هؤلاء هم الإخوان وحركات الإسلام السياسي، إلى غاية أن تنسف مراوغتها الجذور التي استندت إليها، والثوابت التي قامت عليها، فلا تفسير لمثل هذا الانقلاب الكامل على أدبيات الحركات الإسلامية، إلا أنه تأصيل لمفهوم فصل الدين عن الدولة بصورة مصغرة داخل الحزب، في إبهام مبطن لإمكانية القبول به على المستوى العام، طالما أن ذلك يؤسس حضورا لحركة النهضة ليتماشى والتوجه العام في الشارع التونسي. فمثل هذا المسلك لا ننظر إليه إلا بوصفه حالة من «الانحناء» لتمر عاصفة المطالبة بفصل الدين عن الدولة وتوظيف مفهوم الديموقراطية والعلمنة في مفاصل الدولة التونسية. فالحركة ولضمان البقاء في المشهد تركت لها ذراعا «علمانياً» في الحقل السياسي وآخر «ديني» يمارس ذات النهج القديم من التجييش وتمرير الأجندة الفكرية لجماعات الإسلام السياسي. هذا المشهد يمكن أن يقرأ في مرآة ما حدث من هذه الجماعات في مصر والسودان وليبيا وغيرها... ذات الأسلوب المراوغ والخطابات التي تلبس لكل حالة لبوسها. ويحضرني هنا ما نقله أمين الريحاني في حواره مع المؤسس رحمه الله عندما سأله هل ترون من الواجب الديني وهل ترون من الواجب السياسي أن تحاربوا المشركين حتى يدينوا!! فأجابني السياسة غير الدين، ويقول الزركلي أن الملك عبدالعزيز كان يقول للعلماء أنكم أصحاب دين ولستم أصحاب سياسة. لا أجد لتوجه الغنوشي الجديد أي مسوغ أخلاقي أو قيمي، بقدر ما هو «تكتيك» مرحلي تمارسه حركته ضمن تكتيكات مكشوفة النوايا. فما معنى أن يكون لحزب مفهوم يفصل بين العمل السياسي ويؤسس لجمعيات دينية في الوقت نفسه. مخالفا لذلك ما قام عليه من وحدة الخطاب في انضمام العمل السياسي للديني. فلو صح العزم من حزب النهضة التونسي للخروج من دائرة الفهم المتوارث للإسلام السياسي، لأعلن ذلك بوضوح.، مؤسسا لقيام حزب لا يتوسل الدين وصولا لطموحاته وأطماعه السياسية. فهذه الحركات تعمل على تطوير أساليبها المراوغة، كلما أحست بالضغط عليها، إنهم مثل الفيروسات في مواجهة المضادات..
مشاركة :