الداعية "فتح الله غولن" تلميذ وامتداد للشيخ النورسي، فمن النورسي؟ الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي (1876-1960) من أبرز شخصيات العمل الإسلامي الحركي في القرن العشرين، ومؤسس "حركة النور" أو "جماعة النورسيين" الرائدة في تركيا الحديثة، وكل من يدرس حياته ومنجزاته يدرك أنه كان يجمع في شخصه العديد من الشخصيات التي نراها في مختلف التجارب والبلدان العربية والآسيوية وغيرها، والحركات الإسلامية المعاصرة. فهو يحاول جهده التصدي للأفكار الحديثة القادمة من الغرب، ويرى فيها تهديداً للدين والمجتمع، وهو يحاول تطوير سبل الدعوة، فيبذل ما في وسعه في تلخيص معارفه ومعلوماته في كراريس ورسائل يخاطب بها الجمهور، وبخاصة الشباب، وهو رافض حتى لأساليب الطرق الصوفية رغم أن بعض الباحثين الأتراك يعتبره من "نتاج الطريقة النقشبندية في الأناضول". ولد سعيد في قرية "نورس" شرق تركيا، واسم والده "ميرزا" ووالدته "نورية"، في عائلة كردية وتلقى تعليمه الديني على أيدي شيوخ في شرق الأناضول، حتى حصل على الإجازة، وهو في الخامسة عشرة من العمر، ويقال إنه لم ينتم إلى أي طريقة صوفية، بل ظل ناقدا لجوانب من الصوفية التقليدية، قائلاً إن التقاليد الصوفية "لا يمكن أن تلعب سوى دور محدد في الإصلاحات الاجتماعية في ثنايا عصر حديث متسم بالشك وعدم اليقيين، إلا أنه مع ذلك أقر بالدور التاريخي المهم للطرق الصوفية في استعادة شباب الإسلام، والتكيف مع التغيرات الاجتماعية في الإمبراطورية العثمانية". (الإسلاميون والسياسة التركية، محمد حقان يفوز، بيروت 2016، ص299). مراحل حياته عاش "النورسي" تدهور الدولة العثمانية وسقوطها وبدايات تجارب مصطفى كمال أتاتورك ووفاته (1881-1938) وتأثر بالمتصوفة الهنود، وبخاصة الصوفي الهندي البارز أحمد السرهندي، وكان شديد النقد لدكتاتورية السلطان عبدالحميد الثاني، وانضم إلى حركة "تركيا الفتاة"، وجمعية الاتحاد والترقي، واعتنق دعوتها لإقامة دولة دستورية، ثم تحول لاحقا إلى ناقد لها وللتجربة الكمالية، وتعرض للاعتقال والنفي والملاحقة، وترك قدراً كبيراً من الكتابات والكراسات والرسائل، أشهرها "رسائل النور" التي يتحدث بعضها عن أمور كالعبادة والصلاة وإعجاز القرآن ومعجزات الأنبياء، ودلائل قيام الساعة وغير ذلك. وكانت هذه الرسائل تستنسخ من أتباعه يديوياً، ويتم تداولها فيما بينهم. و"في مصر قامت "دار سوزلر للنشر" بجمع هذه الرسائل قبل سنوات في تسعة مجلدات تحت "كليات رسائل النور"، بعد أن ترجمها إلى العربية "إحسان قاسم الصالحي"، وهو عراقي الأصل وحقق بعضها". (الحركات الإسلامية في تركيا المعاصرة، طارق عبدالجليل السيد، القاهرة 2001، ص168) النورسي والعنف ودعا النورسي إلى التغيير التدريجي ورفض السلاح وسيلة للتغيير، ومن تنبؤاته الدقيقة ما ينقله طارق السيد في المرجع نفسه، حيث يقول النورسي "إن الجهاد المسلح ضد الحكام المسلمين سيصيب أول ما يصيب المسلمين أنفسهم، ولم يجن ثمرة هذا الجهاد المسلح الداخلي سوى أعداء المسلمين". وينقسم مفهوم الجهاد عند "النورسي" إلى نوعين، جهاد مسلح وهو ضد العدو الخارجي، وجهاد معنوي داخل المجتمع المسلم، وهو جهاد معنوي وثقافي يستهدف بناء المجتمع لا هدمه، وهو يؤمن بالكيف لا الكم في الإعداد التربوي، وقال إن "تبليغ حقائق القرآن إلى عشرة أفراد بإخلاص وصدق أهم عندي من إرشاد الآلاف في طريقة صوفية، وتبليغ الدعوة إلى عشرة أشخاص بمنزلة نواة تنبت وتصبح شجرة ثابته بإذن الله. أما هؤلاء الآلاف من المتصوفة، فيمكن أن تُزلزل أفكارهم أمام الهجوم الفلسفي المضلل". واهتم "النورسي" أكثر ما اهتم باستقطاب الشباب منادياً بأن حركة النور حركة شباب، "فأغلب من يرتبط برسائل النور كان الشباب الذين يبحثون عن رؤية للحياة في ظل الأزمات الثقافية والاجتماعية والتخبط الأيديولوجي الذي عاشته تركيا آنذاك". المرأة والنورسي وكذلك اهتم النورسي بالمرأة، ليس لأنها نصف المجتمع، بل لأنها المجتمع كله، وقد تعرض "في رسائله للإجابة عن التساؤلات التي أخذت تثار إبان حدوث الانقلابات الاجتماعية، خاصة التي تتعلق بشؤون المرأة، مثل المساواة في الميراث مع الرجل وقضية الحجاب وغير ذلك، إلا أنه لم يخرج برؤيته للمرأة من ذلك القالب الإسلامي التقليدي لدورها في الحياة الاجتماعية، فلم يزد دورها بالنسبة إليه عن كونها زوجة وأما في بيتها". ويقول الباحث نفسه إن "النورسي" كان يعتمد على "رسائل النور" في إحداث نهضة حضارية مستندة إلى الإسلام، ومستمرة إلى الأبد، وقال في إحدى هذه الرسائل إنها "لا تعمر تخريبات جزئية ولا ترمم بيتاً صغيراً مهدماً، بل تعمر أيضا تخريبات عامة وكلية، وترمم قلعة عظيمة صخورها كالجبال، تحتضن الإسلام وتحيط به". ويؤكد النورسي كذلك "قيمة الشريعة الإسلامية في صياغة نظم حياة المجتمع، ودفعه إلى التقدم والرقي". ولم يتحمس الشيخ النورسي للعمل السياسي إلا بعد انفتاح المجال في تركيا للتعددية السياسية، وكان يرى عدم جدوى العمل السياسي في ظل نظام الحزب الواحد، وكان يقول "إنني منذ ثماني سنوات لم أقرأ جريدة واحدة ولم أستمع إليها من أحد قط". ويرى كذلك أن التيارات السياسية مصدر للخلاف والتنازع بين المسلمين "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة". النورسي والتصوف غير أنه بدّل موقفه وموقف جماعته ساعياً إلى التخلص من حزب الشعب الجمهوري ودعمه للحزب الديمقراطي، الذي وعد في برنامجه إعطاء الشعب حريات دينية واسعة. ورغم الطابع الصوفي لجماعة النور، كان سعيد النورسي يؤكد في مواضع متفرقة من رسائله، أنه لم يكن صوفياً، وأن مسلك رسائل النور ليس مسلك الطرق الصوفية، ويقول "إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية، بل زمان إنقاذ الإيمان". وكان يعتقد أن الطريقة الصوفية "لم تعد قادرة على مواجهة الموجة الإلحادية، أو الإجابة عن التساؤلات التشكيكية في الإسلام بلغة معاصرة". ومن طرائف أقواله في نقد التصوف قوله "لا يمكن دخول الجنة بدون الإيمان، بينما يدخلها الكثيرون جداً دون تصوف. فالإنسان لا يمكن أن يعيش دون خبز، في حين يمكنه العيش دون فاكهة، فالتصوف فاكهة والحقائق الإسلامية خبز". (الحركات الإسلامية في تركيا المعاصرة، طارق عبدالجليل السيّد، القاهرة - 2001، ص156- 195). (يتبع غداً)
مشاركة :