ارتبط المشروع الإسلامي لحكم السودان بتصور ترسّخ، على مرّ الزمان، في وجدان مجموعة داخل الحركة الإسلامية السودانية، تشكلت ملامحه في عقلها الجمعي: مشروعاً ينبسط ممتداً عبر رقعة، جغرافية ذات خصائص ثقافية وعرقية، عربية محضة خالصة أو أقرب إليها متماهية مخالطة للعروبة، لا تشاكلها أو تنافرها أو تستقل عنها بخاصية فريدة أو ثقافة خاصة ذات طابع وشخصية مستقلة قائمة بذاتها. ومهما ضمّت صفوف الحركة الإسلامية وواجهاتها السياسية أفذاذاً من أبناء جنوب السودان بين عضويتها ومنسوبيها، إلا أنّه استقر منذ القديم في وجدان تلك المجموعة شعور عميق لا يستصحب ذلك الإقليم المنعزل ببيئته، المبائن بلسانه، ضمن مشروعها الذي تتصوره وتسعى لتطبيقه. ولئن مثّل ذلك تناقضاً حاداً مع أساس الفكرة الإسلامية التي تنشد عالمية الدعوة والرسالة، فإنه انطوى - كذلك - على مفارقة طريفة بين جوهر الأفكار، التي أنتجها ويطرحها العقل المفكر والأمين العام للحركة الإسلامية، وبين ممارسة وكسب أيدي رفاقه في التنظيم؛ إذ بدا ظاهراً أن الزمرة الغالبة من تلامذة الأمين العام ومجامليه لم يقرأوا أو يفهموا يوماً أفكاره، بل إنّ بعضهم لم يطلع على آرائه التي تسعى لمقاربة مثال دولة المدينة التي جمعت قبائل ومللاً ونِحَلاً شتى من يهود ونصارى ومسلمين ومنافقين على عهد واحد يجمعهم ويؤلف بينهم مواطنين يستوون في الحقوق والواجبات. وبذا فهم لم يؤمنوا يوماً بأفكاره ورؤاه في السياسة والحكم، وهي ذات الحقيقة التي تكشّفت بعد وصول الحركة الإسلامية للحكم في السودان، ومن ثم تعمّقت المأساة بوقوع المفاصلة وانقسام التنظيم الذي سار على أثره أولئك في ركاب الدولة والسلطان مجانبين للمثال الذي طالما تمثّله الأمين العام وعمل لقيامه. ولئن ظلّ ذلك التصور الإقصائي مكتوماً مستتراً يُحذرُ ظهوره فقد بدأ - لأول مرة - نحو خواتيم السبعينيات من القرن المنصرم نقاش، بين خاصة عضوية الحركة الإسلامية، يجهر بالحلم العزيز في تأسيس دولة إسلامية لا يغلو مهر لها التخلي والتضحية ببقعة أو بقاع من السودان لا تتسق بدياناتها وثقافتها وعاداتها مع الرؤية الإسلامية في الحكم التي لا ترى سوى أن الإسلام هو الحل، مهما كان شعاراً مبهماً لا تعرف له تصورات بعينها. إذاً فقد تولى - يومئذٍ - واحد من الكوادر الإعلامية الشابة للحركة التعبير عن إمكانية استلهام أطروحة - دولة الفكرة - التي خرجت من رحم الماركسية اللينينية حين تطلَّعت في بعض مراحل تطورها إلى نواة أرض خالصة تشع من بعدها وتنداح سلطة الطبقة. وإذ كان ذلك الشخص آنئذٍ موظفاً بمكتب وزير الشئون الداخلية - المايوي، الإنقاذي أحمد عبد الرحمن محمد - وإذ بدت الفكرة لأول مرة شاذة، صادمة، تستك منها المسامع، فقد أعرب الرئيس النميري عن قلقه موجهاً الوزير الذي يعمل لديه صاحب الفكرة بإجراء تحقيق حول الواقعة. لاحقاً وخلال سِني (تمكينهم) الأول أوفد (الإنقاذيين) ذات الكادر سفيراً لهم ضمن طاقمهم الدبلوماسي لدى بريطانيا؛ حيث انتهى به المطاف للمثول أمام المحاكم البريطانية بتهم إساءة معاملة (خادمته!) التي تتحدر من منطقة الهامش السوداني. لكن العصبيات الجهوية والعنصرية بين الإنقاذيين ارتفعت وتيرتها صُعداً كلما تمكنوا من السلطة فقد أظهر المؤتمر القومي العام للمؤتمر الوطني (1997) لأول مرة عمق الأزمة المكتومة؛ إذ مثل اختيار أمين عام جديد للمؤتمر لحظة الحقيقة وفرصة مناسبة للاصطفاف العنصري والجهوي داخل المؤتمر الوطني، وإذ اختارت القيادة يومئذ لأمانة المؤتمر وجهاً، يعبّر عن تمام انتقال المؤتمر الوطني لمرحلة الفاعلية السياسية، إلا أنه وجه عاصمي، فقد انعطفت كتلتا دارفور والجنوب، تلقاءً، تآزر الأمين القديم - الشفيع أحمد محمد - بدوافع كلها جهوية وعنصرية، وإذ تعسّر على والي الخرطوم يومئذٍ - مجذوب الخليفة - الذي ظل يباشر إدارة التدابير الخاصة لتلك الأزمة فقد لجأ للتزوير، داخل أجهزة حزبه، لكسب الجولة ضد كتلة الهامش وهو يعلن زوراً فوز المرشح غازي العتباني بأمانة المؤتمر الوطني. لم تكن واقعة المؤتمر العام للمؤتمر الوطني (1997) هي أول النذر ذلك أن بولاد كان هو الأسبق في التعبير عن الشعور بالضيم والتهميش داخل الحركة فعلى حين ركن غالب القيادات من إقليم دارفور إلى تكتيكات الالتصاق والتشبث بصف التنظيم انتظاراً للسوانح وما تأتي به الأقدار فقد خرج بولاد مغاضباً معلناً ثورته تلك، الأمر الذي لم يغفره له (إخوانه) فأسلموه إلى حبل المقصلة متعجلين سفك دمه. سوى ذلك الوجه المأساوي فقد كشفت حركة بولاد عن شعور بالمظلمة انتظم كثيفاً بأوساط عضوية الحركة من دارفور وأقاليم الهامش الأبعد، وإذ كان يمكن لذلك الحادث أن يهدي الإنقاذيين إلى اقتناص العِبر واستجلاء العظات، فإن النذر كلها عمّيت عليهم حتى فاجأهم الاصطفاف العنصري الجهوي الأحد من قِبل كتلة دارفور وقد انعطفت إليها تعضدها وتناصرها كتلة الجنوبيين خلال المؤتمر العام للمؤتمر الوطني. بانقسام التنظيم، تهيأت الفرصة سانحة والظرف مواتٍ للجهر بما كان مكتوماً يعتمل في السر، فسرعان ما خرج من خاصة عضوية الحركة الإسلامية وصفها الملتزم، وزير المالية الأشهر في عهد الإنقاذ، يقدم تصوراً لدولة إسلامية عروبية، متجانسة متطهرة من الأعراق والإثنيات الإفريقية الزنجية جنوباً وغرباً والنوبية والبجاوية شمالاً وشرقاً، تقوم دعاماتها على (مثلث الرقعة الجغرافية) التي يشغلها العرب الخُلّص والمستعربون من قبائل التماس التي تهيأت لها فرص التداخل والتزاوج والانصهار مع أهل الوسط والشمال العربي النيلي. الذي يخصه ذلك التصور بخطة برنامج تنمية تتصوب إلى ذات المثلث المقترح، متجاهلة ما سواه من أقاليم ومناطق لا تجد بداً من انسلاخها وذهابها لتقرر مصيرها بعيداً عن كيان القطر التليد. بهذه العقلية أقبلت حكومة الإنقاذ على توقيع اتفاقية للسلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (2005) ضمّنها الحزبان الموقعان فصالاً عن تراض بينهما وتشاور بعد تمام مدة الفترة الانتقالية التي حددتها الاتفاقية، وكانت غاية طموح حكومة الخرطوم المنتسبة للحركة الإسلامية أن يذهب إقليم الجنوب ويخلي بينها وبين الشمال أرض الميعاد والمشروع المنشود، وهو ما بدا ظاهراً في خطاب رئيس الجمهورية بولاية القضارف الذي أعلن خلاله نتيجة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان مستبقاً المؤسسة المنوط بها إشهار ذلك الإعلان، وليردف ذلك الإعلان ببشرى خلوص السودان الشمالي من الثقافات والديانات والعنصر النشاز الذي ظلّ معوقاً للمشروع الإسلامي، ومن ثم استقامة الأوضاع الجديدة وتهيّؤها لاستقبال الشريعة الإسلامية نظاماً خالصاً للحكم وتمام اكتمال تشكّل هويتها الجديدة عروبية كاملة لا تعرف غير اللغة العربية خطاباً رسمياً للدولة في نسخة جمهوريتها الثانية، على حد زعمه. (نواصل) ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :