صحيح أننا لسنا سكَّان كوكبٍ آخر، وأننا لا نعيش في جزيرة نائية معزولة عن العالم، وصحيح أن أخبار العالم تصل إلينا ساخنةً وبالألوان وعلى الهواء مباشرة، بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة. ومؤكد أن لبعض الأحداث تأثيراً على حياتنا. لكن ذلك كله لا يستدعي أو يبرر حماسة واندفاع بعضهم عند الحديث عن قضايا الآخرين، والمزايدة على أصحاب الشأن أنفسهم، حيث يصبح الصدى أعلى من الصوت، والمتفرج أشدّ حماسة من اللاعب، والمعَزّي أكثر صياحاً ونواحاً وولولةً من الثَّاكل. ينكر بعض التقليديين على غيرهم «استيراد المفاهيم والأفكار». مع أنها أفكار إنسانية خلاقة، وتواصل ثقافي منتج في مجال الفكر والآداب والفنون. ولذلك نسأل: أيهما أجمل، التواصل مع الثقافات الأخرى، واستيعاب الأفكار المضيئة، أم «استيراد القضايا السياسية الشائكة»، والاصطفاف مع هذا الفريق أو ذاك، وهدر الوقت في نقاش حاد ومتأزم على مواقع التواصل الاجتماعي التي بدأت تتحول شيئا فشيئا إلى مواقعَ للتنافر الاجتماعي؟ من يتأمل ذلك الاندفاع وتلك الحماسة للقضايا «المستوردة» يظن أنه قد تم الانتهاء من ترتيب البيت من الداخل. ولم يبقَ إلا الاهتمام بقضايا المجتمعات الأخرى. والأعجب من ذلك أن يناقش بعضهم تلك القضايا وكأنه من أهل الدار، وشريك في صنع القرار، أو كأنه يتحكم في سير الأحداث. مع أنه مجرد صدى لصوت غيره. وأنه «لا في العير ولا في النفير»، وليس أحسن حالا من سرحان عبدالبصير. وكان سرحان شخصا «غلبان» ويعرف أنه غلبان. نعم، لا فرق بين بعض أولئك المندفعين وبين سرحان ذلك الشاهد الذي «ما شافش حاجة». ترى ما الغاية المضمرة من الاهتمام بقضايا ليس للمرء فيها ناقة ولا جمل؟ ولماذا حين يسقط المطر في مكان ما من العالم، يفتح بعضهم المظلات، رغم بُعد المسافات، واختلاف البيئات؟ كيف نقرأ مثل هذا الموقف؟ هل نعتبره محاولة للبحث عن الذات التائهة في مكان آخر، أم هو تبعية أيديولوجية لا تستطيع الإفصاح عن نفسها بشكل مباشر، وما أن يقع حدث في مكانٍ ما حتى تجد تلك التبعية لها متنفسا فتعلن عن نفسها في شكل نقاش ساخن يكشف عن الميول والتوجهات؟. لماذا الذهاب بعيدا في المكان؟ ألا توجد قضايا اجتماعية ومعيشية محلية تملأ الوقت الفائض؟ لا يكتفي بعضهم بالذهاب بعيدا خارج المكان، بل يصر، كذلك، على الذهاب بعيدا خارج الزمان. ولا يوجد سلوك يدل على الغفلة من الانشغال بالماضي عن الحاضر والمستقبل، حيث تُستدعى شخوص الماضي وصراعاته وثاراته، ويتم الاصطفاف مع هذا الفريق أو ذاك. هنالك من الحرائق المشتعلة ما يكفي، فلماذا تُبعث داحس والغبراء وأخواتها من جديد؟ وما أكثر أخوات داحس والغبراء في التاريخ العربي! ولماذا يعيش بعضهم في الماضي ويحمل همومه وتبعاته، وحاله لا يختلف عن حال «بُرعِي» في المسرحية ذاتها، حيث شقَّته «أوضة» أي غرفة. وراتبه سبعة جنيهات في الشهر، و«البيت ضيق، والسبَّاط ضيق، والفرشة ضيقة، والعيشة ضيقة». كما يعبر غوار الطوشة؟. ألا يوجد في هذا الحاضر ما يملأ الوقت الفائض، إن كان هنالك وقت فائض؟. لا بأس من العودة إلى التاريخ عودة تأملية. فمن لا يتأمل أحداث الماضي قد يعيد ارتكاب حماقاته. وفرق كبير بين العودة إلى التاريخ لتأمل وقائعه، والعودة إليه للعيش في كهوفه ومغاراته، أو الضياع في متاهاته، أو حمل أعبائه وأوزاره.
مشاركة :