رحلة إلى النرويج «٢-٢»

  • 8/3/2016
  • 00:00
  • 50
  • 0
  • 0
news-picture

أحرص في السفر أن لا تنحصر الزيارة على المدن بل أعطي الريف والطبيعة نصيبا وافيا من الوقت. فإن خيرت بين النظر إلى المارة من قهوة في المدينة والنظر إلى بحيرة محاطة بغابة وجبال وقت غروب الشمس اخترت الأخيرة. كلاهما تفكر في خلق الله ولكن الأخيرة هي التي تبعث على السكينة وتسمح لي بالاستماع لصوتي الداخلي بطريقة لن أتمكن منها مع صخب المدينة. الهدوء الداخلي والتصالح مع النفس والرضا كلها من المميزات التي يكتسبها من سمح لنفسه بالتريث وتهدئة السرعة والتفكر في الطبيعة. لا أمانع أن أقود لساعات من أجل الوصول لخليج منطو في جزء خفي من جزيرة لأرى حجرا كبيرا شكلته الأمواج بشكل غريب، والأمثلة للغرائب كثيرة. النرويج من الدول التي تقدر كل ما هو فريد، ولذلك يوجد على مقربة منك أينما كنت شيئا جديرا بالزيارة، كما أنهم تميزوا في التطبيقات المساندة للسياحة التي تدل الزوار على ما يحيط بهم. هل تود أن ترى بنفسك كيف تصنع القوارب أو تريد زيارة المكان الوحيد في العالم لدباغة جلود السمك أو تريد أن تمشي تحت شلال؟ كل هذا وأكثر موجود. مهما كانت الاحتمالات المتوافرة متنوعة وغريبة، أحرص على أن تبقي ذهنا منفتحا. فنحن لم نجرب كل ما هو متوافر لنعرف بالضبط ما نحب وما لا نحب. لذلك أحاول دائما أن أجرب شيئا لم أجربه من قبل، وإن كان شيئا لا أتوقع أن يعجبني كان أفضل لأذكر نفسي بألا أطلق الأحكام على عجالة. إلى الآن لم أمر بتجربة لم أستفد منها بشكل أو بآخر. أرى أنه من المهم أثناء السفر التجرد من فكرة أن بعض الأمور تليق بالكبار وأخرى بالأطفال فقط، وخصوصا هذه الاعتبارات التي نفرضها على أنفسنا. أسمع كثيرا أن البعض لا يعتقد أن أمورا معينة تناسب بريستيجه، وهذا من الأفكار التي تحزنني وتضحكني في نفس الوقت. تأكد أن بريستيجك الذي تتوهمه هو آخر ما يفكر فيه من حولك، لذلك أطلق لنفسك العنان وجرب ما تود تجربته، فالسفر من الفرص الجميلة التي تسمح للشخص بإعادة اختراع نفسه. لا أحد هناك يعرفك والفترة مؤقتة يغير فيها المرء مكانه ومحيطه الاجتماعي بشكل كلي. هكذا أتصور السفر الصحيح. تكثر كذلك المتاحف المتنوعة من علمية وتاريخية وطبيعية وفنية ومعمارية وغيرها. متاحف لا يمكن زيارتها كلها لذلك أحرص على انتقاء ما أظنه مميزا في البلد أو ما يستهويني. بعض المتاحف متخصصة وصغيرة تكفيها أقل من ساعة والبعض الآخر يمكن قضاء يوم كامل فيه. في هذه الحالات أتأكد من أحوال الطقس لأخصص اليوم الممطر للمتحف. عند زيارة بلد ما فإن تجريده واعتباره مكانا فقط هو إجحاف في حقه. فالتعرف على أهل البلد يعطي الزيارة عمقا لا يمكن تذوقه بالذهاب للأماكن السياحية المحددة فقط. قدر الإمكان تحدث مع من حولك من أهل البلد. أحاول أن أتعلم بعض كلمات التحية والأساسيات، أتذكر فرحتنا عندما يأتينا أجنبي في بلدنا يحيينا بالسلام عليكم أو يشكرنا بالعربي. هذه الفرحة عالمية وتدل على أن الزائر يحاول التقرب بلطف وبطريقة أهل البلد. فإن مشيت نحوهم خطوة هكذا رأيت حفاوة غير متوقعة. أسهل من يمكن التحدث معهم هم النادلون في المطاعم. كن لطيفا معهم واسألهم عن البلد. ما استغربته مثلا كان أن غالب النادلين في أوسلو الذين يبدون لي من أهل البلد كانوا وافدين من السويد لأن النرويج اقتصادها أقوى ورواتبها أعلى وفرص العمل الصيفي متوفرة. في كل مرة أتحدث مع أحد من سكان البلد أسألهم عن الأماكن التي يذهبون لها، وما يوصون به. أفضل مطعم محلي كان توصية من بائعة نرويجية في محل وليس تطبيقا لتقييم المطاعم. الأمثلة كثيرة ولكن إن أردت أن تنفتح لك البلد كن منفتح الذهن أولا. من كثرة التنقل بين المدن والقرى أثناء زيارة بلد واحد أجد نفسي في آخر الرحلة مرهقة بسعادة، لذلك أحاول أن أستقر لأيام في المحطة الأخيرة قبل رحلة العودة، وهي مرحلة الاستجمام التي تساعد في التأقلم للرجوع إلى روتين العمل والالتزامات اليومية. فترة قصيرة تساعد على استرجاع تفاصيل الرحلة قبل الخروج من جوها العام لتثبيتها في الذاكرة بطريقة نقية. هاتان مرحلتا الاستعداد والسفر، ولكن تبقى مرحلة أخيرة مهمة وهي توثيق التجربة، فأنا من هواة التصوير ولا يفارق يدي الجوال الذي أصور به لأصيد انطباعات سريعة وما يستوقفني. بعد الرحلة أقضي أشهرا في توثيق الرحلة على حسابي الخاص بالانستجرام ليكون بمثابة مذكرات مصورة لأبرز ما رأيت. بهذا لا تكون الصور حبيسة لجهاز شخصي وأتمكن من كتابة بعض التفاصيل عن تلك الأماكن، ويكون حسابي نوعا من مشاركة الآخرين بتجربتي، حيث إن الصور كلها مرتبة بالترتيب الزمني الصحيح للرحلة. تلذذت برحلة النرويج طيلة ثمانية أشهر، منها خمسة كتخطيط وترقب، وشهران للتوثيق والتذكر توسطتها رحلة فعلية دامت أكثر من ثلاثة أسابيع. مهما طالت أو قصرت مدة السفر يمكن تطويلها بالاستعداد والتذكر.

مشاركة :