تنفرد شاشة سينما «دوبارك» في مونتريال بعرض فيلم «موسيقى الغرباء» في نسخته الأصلية باللغة الإنكليزية مع ترجمة باللغة الفرنسية. في هذا الفيلم وعلى مدى ساعة ونصف الساعة، أراد مخرج الفيلم الأميركي مورغان نيفيل، حامل أوسكار 2014، أن يقدم الفن، والموسيقى تحديداً، كملاذ ووسيلة لاستمرار العيش بأمن وسلام جاعلاً منه أنشودة للحلم والأمل في كل زمان ومكان. ولهذه الغاية يلاحق المخرج ما يحيط بعوالم شخصياته الأساسية. ويجسدها بمجموعة من الموسيقيين الوافدين من بلدان مختلفة يحمل كل منهم لغته وثقافته وتراثه وتجربته ومعاناته. وهم يجتمعون على إيمانهم بالفن العابر للحدود والثقافات والأعراق، وعلى حبهم المشترك للحياة والموسيقى كلغة عالمية. وينسج من حكاياتهم وأماكنهم وتجاربهم الذاتية ورؤيتهم للحياة، شريطاً فنياً مؤثراً ومثقلاً بالمشاعر الإنسانية. موسيقيون بلا حدود تشكلت هذه المجموعة عام 2000 من عازف التشيلو الشهير الأميركي – الصيني يو يو ما والموصوف بالمعجزة والملهم وخزان القصص المؤثرة. وكيهان كالهور الكردي الإيراني - الأميركي (عازف كمان ومؤلف موسيقي) الذي يلعب على آلة موسيقية قديمة (كمنشش) ويأمل بالعودة إلى وطنه إيران إذا ما تحرر الفن من حالة الأسر والمنع. ويتميز كالهور بموسيقى ساحرة وشخصية أسطورية تسيطر على المشاهد وهو يستمع إلى حكاياته المؤثرة عن خسارته عائلته وأخوته بسبب وقوفه مع قضايا شعبه وإصراره على أن الموسيقى تحمل في ثناياها مآسي الغربة ومعاني الأمل والحنين والخلاص من الظلم. ويشاطره في هذه الآلام والآمال الفنان السوري كنان العظمة، عازف الكلارينت الذي يحاول التعبير عن غضبه وحزنه إزاء تخاذل المجتمع الدولي عن نصرة بلاده الغارقة في الإرهاب والحرب الأهلية التي باتت منذ خمس سنوات ساحة لصراعات إقليمية وشبه حرب عالمية. يشكل العظمة في الفيلم حضوراً طاغياً وشخصية كارزمية جذابة. تختزن تساؤلات كبيرة عن جدوى الفن ومعنى الهوية والانتماء إلى وطن فتكت به آلة القتل والدمار وشردت الملايين من شعبه في شتى بلدان العالم. وتساؤلات حول استشراف دواخل فنان يصر على إيمانه بالسلام والمحبة بمقدار رفضه الحرب والعنف. الفيلم وثائقي بامتياز وذو أبعاد اجتماعية ثقافية فنية إنسانية فلسفية. فــــهو لا يغوص في عالم الإبداع الموسيقي وحسب، وإنـــما يؤرخ في وثائقه للمجموعات الأولى من اللقاءات والمقابلات التي جرت في نيويورك وسوريا وإسبانيا وبعض المناطق الريفية الصينية. وفي كل هذه الأمـــاكن يعزف الموسيقيون على آلات بلدانهم القديمة التـــي قد تبــــدو غربية في شكلها وألحانها على غـــرار مزمار «غيـــتا» Gaita الذي تعزف عليه الإسبانية كريستينا باتو والذي يجـــسد الجذور الفنية لمسقط رأسها، أو مثل آلة «بيتا» أو العود الصيني القديم الشبيه بدمعة العين. باختصار يقدم «الغرباء» نظرة ملهمة مستوحاة من عازفين مبدعين ينتمون إلى بلدان وعوالم وثقافات وأعراق مختلفة، ويتواصلون مع بعضهم البعض مع أنهم لا يتحدثون اللغة نفسها. فالموسيقى، يقول لنا الفيلم، وحدها لغة الجميع، تقرب الأبعاد وتختصر المسافات وتعبر الحدود وتتحدث عن كل شيء وتقوى على كل شيء. والفيلم في النهاية لا يغوص في أعماق الموسقى وحسب، بل يبحث في الهوية الثقافية والفنية، ويصور الإبداع الإنساني في أبهى تجلياته، ويتحدث عن معنى الوطن والوفاء لإرث الآباء والأجداد وبني البشر. كما يقدم صورة حية مشرقة لتجربة موسيقية جريئة في عالم تستبد به عولمة متوحشة. وهو بالتالي بمثابة حصان طروادة كبير يسلط الضوء على قضايا اجتماعية وثقافية وفنية ويستكشف ما يسودها من توترات أمنية وسياسية في الغرب والشرق. واللافت أن ما يوحد هؤلاء العازفين هو عشقهم للموسيقى وسعيهم المشترك للبحث عن القواسم المشتركة، لا سيما المتجذرة في الأرض والتاريخ. ليسوا غرباء ويقول الناقد السينمائي في جريدة «لابرس» المنتريالية هوغو لاروز أن «موسيقى الغرباء»، يحسب ألف حساب لحدود الفن في مواجهة الأزمات. فنحن نعلم أن الموسيقى لا يمكن أن توقف رصاصة أو تطعم جائع، إنما يمكن أن تجلب الأمل والفرح إلى سكان وأماكن وشعوب ما تزال تعيش على وقع التوترات الأمنية والخوف وعدم الاستقرار، كما هي حال اللاجئين في أوروبا تحت وقع النظرة المعـادية لهم في الغرب عموماً». أما زميله في جريدة «لو دوفوار» كريستوف هوس فيرى، أن شخصيات الفيلم ليسوا غرباء على رغم أن عنوان الفيلم هو «موسيقى الغرباء»، وموسيقاهم ليست غريبة فهي موسيقى إنسانية للجميع».
مشاركة :