الشارقة: غيث خوري تعد لوحة الصرخة للفنان النرويجي إدوارد مونك، أحد أهم الأعمال في تاريخ الفن الحديث، وقد اكتسبت هذه اللوحة، رغم بساطتها الظاهرية، شعبية عالمية خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة شحنة الدراما المكثفة فيها، والخوف الوجودي الذي تجسده، وهي تمثل رجلاً يعكس وجهه مشاعر الرعب، واقفاً على جسر أمام طبيعة تهتز بعنف وهو يحدّق في الناظر، فيما يطبق بيديه على رأسه الشبيه بالجمجمة ويفتح فمه بذهول ويأس، على خلفية من الأشكال المتماوجة وتدرجات اللون الأحمر الصارخة. تعكس الصرخة القلق الداخلي الكبير الذي كان يعيشه مونك في حياته، وهو من مواليد عام 1863 في بلدة ريفية صغيرة بالنرويج، وكان الابن الثاني بين خمسة أبناء للدكتور كريستيان مونك وزوجته لورا كاترين، وعاش طفولة بائسة، مضطربة جرّاء تأثير والده الذي عانى نوباتٍ نفسية متوترة، تركت أثراً كبيراً عليه أدخلته في شبابه، إلى مصحة للأمراض العقلية بكوبنهاجن، وقد توفيت أمه وهو في الرابعة من عمره، وتركته لوالده المتزمت الشديد التعصب للدين، بدرجة الهستيريا الجنونية، ويقول مونك في أبيه: لقد كان في لحظات الاستغراق الديني، يذرع الغرفة جيئة وذهاباً وهو يكاد يجتاز حدود الجنون، وإذا ما عاقبنا نحن أطفاله كان عقابه عجيباً في قسوته ووحشيته. توحي ضربات ريشة مونك بضربات فان غوخ، وقد كان مونك شديد التأثر به وبالمدرسة التعبيرية، ويرى مونك، أن فان غوخ بلوحاته الرائعة هو مؤسس التعبيرية الحديثة، لقد استخدم وهج الشمس الغاربة، ليعبر عن رغبة عاطفية؛ لأن اللون كما يقول فان غوخ، هو الذي يعبر عن ذاته. في لوحته العاصفة التي صور فيها مونك في الظاهر، ليلة عاصفة، هي في الواقع وصف رمزي، للعاصفة التي تزأر داخل النفس البشرية، وهكذا هو الحال بالنسبة إلى لوحة الصرخة التي تحمل أبعاداً رمزية عالية على الصعيد النفسي والداخلي لمونك الذي حاول أن يخرج مكنونه الداخلي عبر الألوان التي تتحرك كالأشباح تسير في أرجاء اللوحة في تماوج عصبي، ملتفة حول بعضها حيناً، متجهة إلى مساحات وآفاق مجهولة حيناً آخر. وقد كتب إدوارد مونك في مذكّراته حول رسمه هذه اللوحة: كنت أعبر الطريق مع صديقين لي، وفي تلك اللحظة كانت الشمس تغيب، وفجأة اصطبغت السماء بلون الدم الأحمر القاني... فتوقّفت مستنداً إلى الحاجز وأنا منهك حتى الموت... كان لون الماء من ورائي قد صار أسود على شيء من الزرقة الغامقة، أما المدينة فبدت لي مغمورة بأمواج من الدم تلتهمها ألسنة ضخمة من النيران، واصل صديقاي مسارهما، فيما رحت أنا ارتجف من الألم، شاعراً بأن ثمة صرخة طويلة لا نهاية لها تعبر الطبيعة كلها.... لقد عكست أعمال مونك الصراع والقلق الإنساني، في قالب تعبيري متدفق، واستطاعت أن تنقل تلك المعاناة والألم من البعد الخاص المرتبط بمونك مباشرة، إلى البعد العام المرتبط بالإنسان حيثما حل. يقول روبرت هيوز في مقالة في الغارديان: تحولت أعمال مونك التي تظهر فيها شخصياته الكئيبة، المعذبة إلى رموز كونية للاضطراب النفسي والمعاناة، فكيف تسنى له هذا التعبير الدقيق، هل لأنه كان يرسم نفسه، إن ذلك الشعور القوي باليأس الذي يستولي على شخوصه والاستغراق في التفكير بالذات لا يمكن أن يثير في النفس إلا حالة من الهلع لدى مشاهدتها. وإذا كان في ذلك من المعاناة ما يكفي بالفعل، فإن إحدى الاستراتيجيات المتميزة التي مكنته من التعاطي مع الواقع، هي في الحقيقة المبالغة في التعبير عن تلك المعاناة وذلك البؤس، ورغم أن ذلك لم يكن فريداً في حد ذاته، فإن حدود هذا التعبير كانت تطرح نفسها في صورة هزلية ومضحكة أحياناً. تحولت لوحة الصرخة منذ ظهورها في عام 1893 إلى مرجعية استند إليها الكتاب والشعراء والسينمائيون في إنتاج أعمالهم، التي ضمنوها إحالات مباشرة أو غير مباشرة إلى هذه اللوحة، وقد قدمت الشاعرة الألمانية الأمريكية مارغوت شاربنبرغ في ديوانها (آثار) مقاربتها لهذه اللوحة في قصيدتها، حيث تقول: غناء/ فوق الماء/ وموسيقا الماء/ لا تطفئها إلا النار/ غناء فوق الجسر/ وصراخ عذارى/ لم يتغنَّ به إنسان/ من أجل الصمّ/ عبَّر عنه الفنان/ كي لا يهووا/ في جوف الصورة / كالعميان/ الصرخة/ كالشلال تطلق بأصابع يد/ توغل في البعد/ إلى أميال/ تشبه قبضة حجر /فوق الجِلْد.
مشاركة :