قضية هامة وسؤال حائر بين النقمة والنعمة أو النعمة والنقمة! حين نتعاطى مع هذه الشبكات ورغم ما نجد من التحذيرات منها ورغم ما نجد من ذكر لفضلها، إلا أن السؤال يظل محيراً في بيوتنا، وبين أيدي أمهات الأجيال وآبائهم! الحقيقة أن العربي كان في حاجة ملحة إلى الاتصال ثم يليه التواصل، في حركة مكوكية بين المعرفة وتوليد الفكر والإبداع. وفي هذا الشأن قدمت أبحاثا في مهرجانات وملتقيات عديدة في أغلب الوطن العربي، ومنها "إبداع الجزر المنعزلة" الذي نشرته وزارة الثقافة بالشارقة كتابا، وحينها في أواخر القرن المنصرم كنت أناقش إبداعات السيدات العربيات في -الجزيرة العربية- التي لا يراها سواهن بين بعضهن البعض، وما يعانيه إبداعهن من انعزال، نظرا لعوامل عدة أهمها شح الاتصال في العالم العربي والدولي! لقد كانت مشكلة قاتلة للفكر والإبداع على هذا المنوال. ثم أصبح لدينا مبدعون ومفكرون متماسون بعد انتشار الهواتف النقالة، إلا أنها ظلت دوائر متماسة وغير متقاطعة فلا تسمن ولا تغني من جوع، نتيجة ارتفاع تكاليف هذا الاتصال، فتقاطع الدوائر هو ما يثمر وهو مثل نواة الذرة إذا ما تقاطعت أنتجت نواة جديدة. ثم قدمت بحثا آخر في "العربي بين الاتصال والتواصل"، وكان هما كبيرا يؤرق كل المبدعين والمفكرين والباحثين على حد سواء؛ التواصل بعد الاتصال وهو ذلك التقاطع بعد التماس، فهل يرجع ذلك إلى طبيعة الشخصية العربية، أم أنه خلل "في العلاقات الإنسانية نفسها"؟ فالإبداع الفكري الذي يعود لصالح المجتمع سواء كان علميا أو فنيا أو فلسفياً أو نوعا آخر، لا يتم إلا في إطار الجماعة، فالإبداع ليس عملا فردياً بطبيعة الحال؛ وإن امتلك حقه فرد بعينه؛ إلا أنه يأتي من عصارة الجمع وتلاقح الأفكار؛ ومن رسم المعاناة والبحث عن الحقيقة أيا كان كنهها. تلك هي الإشكالية المؤرقة لكل المفكرين، فلو لم يكن شكسبير عاملا في إسطبل خيل رواد المسرح يندمج ويتصل ويتواصل لما أصبح شكسبير! ثم أتت مرحلة التواصل الاجتماعي عبر الفيس بوك الذي يحتفل هذا العام بعامه العاشر وأنشأ نوعاً من الاتصال والتواصل أيضاً، وكانت المسألة في طريقها إلى الحل حيث أصبح في مقدور الذوات الفردية أن تذوب في الكل الجمعي، سواء على المستوى المحلي أو العربي ثم العالمي، وشكرنا الله على هذه النعمة التي سخرها الله لعباده، ثم تنوعت الدوائر عبر الشبكات العنكبوتية متنوعة الأسماء. الحقيقة أنها تبدت لكثير منا أنها نعمة إلا أنها نقمة في نفس الوقت، تساءلت أين الخلل؟ لماذا يحتمل أن تكون لنا نقمة إلى جانب النعمة! ولماذا لم تحل هذه النقمة على بلاد العالم التي تداولتها، أو التي أنتجتها! فهل الخلل فينا؟ الخلل ليس في دوائر الاتصال بل في مستخدميها. فعندما اخترع ألفريد نوبل مادة الديناميت لم يكن يتيقن أنها ستستخدم في الحروب والموت والدمار، حتى كاد يتبرأ منها. وهذا هو التواصل الاجتماعي والإلكتروني يستخدم في الحروب وفي دمار الشعوب، فعبره نشأت تنظيمات إجرامية، وعبره أيضاً تُبث طريقة تصنيع المتفجرات من مسحوق الغسيل وغيره، وعبره يجند شبابنا لدفعهم وقودا في حروب لا طائل منها سوى مصالح خاصة! يتحول التواصل والاتصال إلى حروب إلكترونية تدمر الإنسان وتزعزع استقرار الدول؛ وبالتالي الإنسان البسيط الذي ليس له فيها ناقة ولا جمل، فأين تكمن المشكلة؟ إذا تتبعنا المشكلة سنجد أن أغلب جمهور هذا التواصل من الشباب، وهو شباب فطري بريء طامح لما هو أفضل للانتقال من الكدر إلى اللذة، ومن الشقاء إلى السعادة، دون أي نوع من الوعي الناتج عن القراءة، وأعني بالقراءة هنا هو التحليل والتفسير بتفكير منهجي يصل بصاحبه إلى اتخاذ القرار، نتاج تفكيره المنطقي، عبر رحلة استقرائية لما هي عليه الأمور، ثم إلى أي مدى تؤول إليه. وللتعليم دور كبير في طريقة تعليم المنهج النقدي الذي أشرنا إليه في مقال سابق لهذا أولاً. وثانيا: أن هذا الانفتاح على الانتقال الزماني غير المكاني عبر البث الإلكتروني جعل الفرد يتجول في أنحاء العالم وهو قابع في مكانه بدون حدود ولا تأشيرات، ولا موافقة دول! ويتصل بحاستي السمع والبصر؛ واللتين قد تتطورا إلى الحواس الخمس كما سمعنا وقرأنا، كل معطيات الحياة الوجدانية والعقلية ربما تتمنى أن ينتقل هذا العالم المتصوَّر من وجهة نظره إليه، أو ينقل هو إليه، في رفض تام للواقع الذي يعايشه. من هنا نشاهد هذه الحالة مما قد يؤدي إلى الهجرة المكانية بالانتقال إلى بلاد الأحلام من وجهة نظر الفرد إما بطريقه شرعية أو غير شرعية. وها نحن نرى في مشهد تراجيدي كيف يموت الشباب في قوارب الهجرة غير الشرعية. بالفعل تراجيديا تغلب التراجيديا اليونانية، تتلخص في كيف يسعى الإنسان إلى حتفه، وهو يعلم أنه غالباً ما يموت؛ وإن لم يمت فسيسجن. هذا السلوك المتمثل في التضحية والفداء من أجل رؤية أرض الأحلام والحلم بالخلاص، ولذلك نعتقد أن الخلل يكمن في طريقة التفكير، وأن الواقع لم يعد مرضيا لهؤلاء الشباب, ثم إن هناك تساؤلا آخر: لماذا لم نر أيا من أبناء هذه الدول يسعى إلى حتفه كي يرى أرضنا رغم أن فيها بيت الله الحرام، بالنسبة إلى مسلمي هذه الدول على أقل تقدير, وبالتالي فالمسألة تعود إلى فطرة وبراءة هؤلاء الشباب وتصديقهم لكل ما يقال لهم. لقد تعلمنا في النقد الدرامي أن كل شخصية تحمل بداخلها نقطة ضعفها, والشخصية التراجيدية التي تقضي نحبها بسبب الإصرار على الفعل رغم أن هلاكها يكون في هذا الفعل وتسمى اصطلاحا "الهمارتيا"، أي القشة التي قصمت ظهر البعير. وفي كل شخصية تراجيدية نقطة هلاكها؛ أما الثقة الزائدة فهي مثلما وثق صدام حسين وهو شخصية تراجيدية بكل المقاييس في رجاله وأودى ذلك بحياته. أليس بعض شبابنا ورجالنا من جمهور التواصل الاجتماعي والشبكات العنكبوتية شخصيات تراجيدية؟! نحن نراهم كذلك ونقطة ضعفهم ليست في أفعالهم، فلكل إنسان حرية الفعل بما يرى دون إملاء من أحد، أما نقطة الضعف والتي هي "الهمارتيا", فهي تصديقهم المطلق لما يقال دون تفكير نقدي ومنهجي.
مشاركة :