وسط حالة من الظلام تزداد عتمتها يوماً بعد يوم في مواقف فئات عدة في العالم غير الإسلامي، خاصة في الغرب، تجاه الإسلام والمسلمين، على خلفية أعمال عنف تعلن المسؤولية عنها تنظيمات تنسب نفسها إلى الإسلام، صدرت مواقف تستحق التحليل، كما تستحق الإشادة، تجاه الإسلام والمسلمين، من جانب البابا فرنسيس، وخاصة التصريح الذي أدلى به لدى عودته من رحلته الأخيرة إلى بولندا، وجاء بمثابة ضوء شمعة وسط ليل دامس وبصيص أمل عبر ظلام حالك. أكد البابا رفضه القاطع لإلصاق تهم الإرهاب أو العنف أو التحريض على أي منهما بالإسلام كديانة وعقيدة ورسالة، وفنَّد إلقاء تلك التهم جزافاً على المسلمين في مجموعهم أو حتى على السواد الأعظم منهم، ودان الربط بين ديانة الشخص أو عقيدته وبين قيام ذلك الشخص بارتكاب جريمة. ونفى البابا كذلك اقتصار ارتكاب أعمال العنف أو الإرهاب على أبناء ديانة واحدة أو عرق في حد ذاته، وهو الدفع نفسه الذي حاولت دوائر منصفة في العالم غير الإسلامي في السابق الترويج له، ولكن لم يكن لأي منها الوزن الذي يتمتع به الحبر الأعظم. وزادت أهمية تلك التصريحات في ضوء توجيهها انتقادات للسياسات التي تتبعها دول غربية تجاه مواطنيها أو المقيمين على أراضيها من المسلمين، بل الذهاب إلى حد تحميل تلك السياسات جزءاً كبيراً من المسؤولية عن انحراف بعض الشباب المسلمين، سواء في تفكيرهم أو في أفعالهم، ما ينتج عنه القيام بأعمال عنف أو إرهاب وإيجاد المبرر لذلك. ولم يفت البابا تأكيد أن من يتبع نهج العنف والإرهاب ممن يدعي الانتماء للإسلام يتبنى تفسيرات غير صحيحة تتعارض مع جوهر الإسلام السمح. لا أعتقد أن هناك من المنتمين للإسلام أو الغيورين عليه من أبنائه وعلمائه من كان يمكنه أن يصيغ هذه السلسلة المترابطة من الأفكار والطروحات المدافعة عن الدين الحنيف والنافية أي صلة حقيقية بينه وبين العنف أو الإرهاب، وبذلك النسق الذي ينم عن فهم للعقلية الغربية، وبخاصة الأوروبية، وقدرة على مخاطبتها من الزاوية التي تهم تلك العقلية في الأساس، بالقدر والدرجة والمهارة التي قام بها البابا فرنسيس. وتأتي أهمية تلك التصريحات من جانب آخر، إذا قارنا بينها وبين تصريحات للبابا السابق بنديكتوس السادس عشر، كانت تقف على النقيض تماماً من تصريحات خَلَفِه. فالبابا السابق تعرض لانتقادات حادة من داخل العالم الإسلامي وخارجه عندما تضمنت محاضرة له في ألمانيا عبارات تم فهمها على نطاق واسع بأنها توحي ضمنياً بوجود علاقة عضوية بين نصوص دينية في القرآن والسُنَّة النبوية وسوابق في التاريخ الإسلامي من جهة وبين أعمال العنف والإرهاب وممارستها والحض عليها من جهة أخرى من جانب بعض المسلمين. وهذا الاختلاف الظاهر للعيان بين تصريحات البابا السابق والبابا الحالي، له جذوره التي تفسره أيضاً والكامنة في الانتماءات الفكرية والأُطُر المرجعية لكل منهما. فالبابا السابق كان ألمانياً وانتمى إلى الدوائر ذات التفسيرات المحافظة داخل صفوف الكنيسة الكاثوليكية عامة، والألمانية على وجه الخصوص، متأثراً بسنوات الحرب الباردة وتعبئة الدعم للتوجهات المحافظة وعدم إبداء المرونة إزاء المنتمين للعقائد الأخرى عموماً، وإن مثَّلت مواقفه تجاه اليهود استثناءً لتلك القاعدة، وكذلك عدم وجود أي قدر من التسامح تجاه أصحاب التفسيرات المغايرة داخل السياق العام للكنيسة الكاثوليكية، بخاصة من ذوي التوجهات الدينية التقدمية أو الليبرالية. وبالمقابل، يقف البابا الحالي بثبات منذ يومه الأول في الكرسي البابوي مرتكزاً على أرضية تستمد شرعيتها من خلفيته القادمة من الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية وتأثرها الكبير بظهور وتطور «لاهوت التحرير» في بلدان القارة اللاتينية. وهو انتماء بدا جلياً من خلال مواقف سابقة أعلنها وتبناها تجاه مسائل حيوية ليس فقط للكاثوليك، بل لمجمل البشر، وفي مقدمها قضايا غياب أو عجز اعتبارات المساواة ومتطلبات العدالة الاجتماعية، ووجود تحديات الفقر والجهل والمرض، وموضوعات الحرمان عموماً، وقضايا ذات طابع اجتماعي/ إنساني، وعالمي في الوقت ذاته، مثل إشكالية اللجوء واللاجئين وكيفية التعامل معها، ومسائل متعلقة بالتسامح تجاه الأقليات والفئات المهمشة والمستضعفة مجتمعياً على الصعيد العالمي. هذه المواقف التي تعتبر الأكثر تحرراً وتقدماً تجاه الإسلام وأتباعه، ربما في تاريخ المواقف البابوية، تستوجب البناء عليها من جانب العالمين العربي والإسلامي عبر جهد منظَّم، وعمل ممنهج، وتخطيط يأخذ في الاعتبار المدى القصير والمتوسط والطويل على حد سواء، ومن خلال رؤية واضحة المعالم تتسم بالتناغم والتجانس وتتضمن تقسيماً تكاملياً، من دون تداخل أو تكرار، للأدوار بين مختلف الأطراف الفاعلة على ساحة العمل لتحسين صورة العرب والمسلمين، وصورة الإسلام ذاته، في المجتمعات غير الإسلامية خاصة، ولكن من دون الاقتصار على المجتمعات الغربية. ومثل هذا الجهد والعمل سيكون له بالضرورة أكثر من مستوى من مستويات المردود الإيجابي، منها ما يتصل بالعلاقة بين العالم الإسلامي وبقية مناطق العالم، وبخاصة مع الغرب، وأوروبا على وجه التحديد، والحاجة لمعالجة متأنية ومتعمقة ولكن شجاعة وواضحة في الوقت ذاته، للجدليات المعقَّدة والمتشابكة لتلك العلاقة من منطلق محاولة استعادة جذور الثقة المفقودة بين الجانبين، وذلك نتاج قرون، وليس مجرد عقود، من بناء تراكمي للشكوك المتبادلة والعداوات الافتراضية أو الحقيقية بين الطرفين. وذلك من خلال إبداء النوايا الحسنة وربطها بخطوات إيجابية محددة ومبادرات بنَّاءة متواصلة وقابلة للتنفيذ، بما يؤكد صدق تلك النيات وعدم ظرفيتها أو طابعها الاعتذاري المحض أو كونها مجرد رد فعل نمطي أو تقليدي على حادث عنف هنا أو فعل إرهابي هناك. ويخص المستوى الثاني الجاليات العربية والإسلامية في بلدان المهجر، والتي تلقى عليها مهمة ثقيلة، ولكنها حتمية وتاريخية في آن، وهو ما يتمثَّل في التوصل إلى ذلك الخيط الرفيع وتلك الصيغة المثالية، ولكن التي تتصف بالعملية والقابلية للتحقق على أرض الواقع، للجمع بين الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لتلك الجاليات، بما في ذلك تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، أو الديانات الشرقية الأخرى كالأرثوذكسية القبطية مثلاً، وكذلك الحفاظ على منظومة القيم والعادات والتقاليد النابعة من الثقافة الوطنية لدى البلدان التي ورد منها هؤلاء المواطنون أو المقيمون في المقام الأول، وتوريثها من جيل إلى آخر من جهة، وبين تحقيق القدر المطلوب من الاندماج الوطني في البلدان غير الإسلامية، بما يحقق الحد اللازم من الانصهار المجتمعي وشعور جميع المواطنين والمقيمين بوجود روابط مشتركة من الولاء والانتماء تجمعهم، من جهة أخرى. من المهم أن يلتقط المفكرون والمثقفون والدوائر المؤثرة في الرأي العام في العالمين العربي والإسلامي، الخيط من تصريحات البابا فرنسيس الإيجابية والبنَّاءة تجاه الإسلام والمسلمين، ولو حتى كمجرد مدخل لإعادة النظر في المناهج المتبعة حتى الآن في الدفاع عن الإسلام، ديناً وحضارةً وتاريخاً، ليس من منطلق «الدفاع المطلق»، بل على أرضية «الدفاع الرشيد» الذي لا يعيبه في مواقف معينة أن يمارس النقد الذاتي ويقر بوجود إشكاليات في الفكر والخطاب والسلوك يتعين التصدي لها بشجاعة بهدف معالجتها وتقويمها. كما أنه دفاع يتعين أن يتسم بالمنطق وبفهم العقل الذي يخاطبه ومرتكزاته وأطره المرجعية، ومحاورته على أرضيته وبخطاب مفهوم لديه وبمفردات تكون قريبة منه ومتداولة لدى أتباعه، من دون إغفال واقع أنه يجب تنبيه الطرف الآخر أيضاً إلى أوجه النقص أو القصور لديه والتعبير بصراحة، ولكن في شكل سلمي وحضاري، عن تحفظات أو انتقادات تكون موجَّهة إلى بعض سياساته أو مواقفه أو حتى توجهاته. * كاتب مصري
مشاركة :