*نزح العرب والمسلمون إلى ديار الغرب بحثًا عما افتقدوه في بلادهم الأصلية، وكانت الأنظمة الثورية التي قامت في الخمسينيات والستينيات الميلادية ببطشها ودمويتها من الأسباب الرئيسة خلف ذلك النزوح الجماعي، وظلت تلك الأنظمة تلاحق الناشطين من مواطنيها وخصوصًا أولئك الذين يكشفون الأوراق السرية لتلك الأنظمة في الإعلام الغربي الذي يفترض أن نعترف لبعض أدواته ووسائله بمقدار من الموضوعية وخاصة قناة الـ (بي بي سي) الشهيرة. وإذا كانت في السبعينيات الميلادية شهدت عواصم غربية مثل لندن تصفيات دموية من تلك الأنظمة لشخصيات سياسية معروفة، فلقد كانت الثمانينيات الميلادية بداية لتعقُّب الشخصيات الدينية، ولن أنسى ذلك اليوم الذي قصدتُ فيه المركز الإسلامي في لندن لأداء صلاة الجمعة عام 1980م تحديدًا، وبعد انقضاء الصلاة سمع المصلون جلبة وأصواتًا تستغيث، فخرجنا من المسجد لنجد إنسانًا يغرق في دمائه وتقف امرأة محجبة مع طفلها الصغير بجانب جثته، ووجدنا الشرطة البريطانية تمسك بشخصين ذوي سحنات عربية، ولم يكن الشخص الذي سُفكت دماؤه البريئة سوى الإعلامي الليبي محمد مصطفى رمضان والذي عمل نظام العقيد القذافي على تصفيته، وظل المركز الإسلامي لمدة طويلة تحوط سماؤه طائرات «الأوسكتلانديارد «. وفي الحقبة التي كنت أدرس فيها مع زملاء آخرين في جامعة مانشيستر فكتوريا، أفقنا ذات يوم من عام 1985م، على أصوات طلقات رصاص، وعلمنا أن تلك الطلقات تستهدف طلابًا من البلد العربي»ليبيا» متهمهم النظام بأنهم يسوِّقون دعاية ضده، وسبق ذلك قتلُ الشرطية البريطانية «فليشر» على أيدي قناصة من السفارة الليبية في لندن. *وبما أن حزب المحافظين بزعامة مارجريت تاتشرThatcher» 1975-1990/م كان على علاقة وثيقة مع الحزب الجمهوري الحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة رونالد ريجان Regan، لذا فإن تاتشر على هذه الخلفية إضافة إلى علاقة القذافي المستهجنة آنذاك مع الحزب الجمهوري الايرلندي المعروف بـ «IRA»،كل ذلك دفع تاتشر للقيام بفتح القواعد البريطانية أمام الطائرات الأمريكية عام 1986م لضرب نظام القذافي، وخرج ريجان ليعلن بنبرة فيها كثير من التحدي: «لقد فعلناها وسوف نفعلها ثانية إذا ما اقتضى الأمر». وكان نظام القذافي في موضع التهمة الجنائية باستهداف ملهى ليلي يقصده جنود وضباط أمريكيون في عاصمة غربية (برلين). *في عام 2005م وكنت آنذاك في زيارة للمملكة المتحدة حدثت تفجيرات في شبكة القطارات في لندن وكان تنظيم القاعدة خلف تلك التفجيرات، وكان الدهاء السياسي الإنجليزي يقتضي من رئيس الوزراء البريطاني آنذاك «توني بلير» Blair أن يحتوى آثار ذلك الهجوم الإرهابي الذي ذهب ضحيته العديد من المواطنين الأبرياء ومن بينهم مسلمون يقيمون في بريطانيا. ولهذا صرَّح في بيان له بمجلس العموم أن حكومته تفرِّق بين الإسلام كدين وبين هذه الأعمال الإرهابية المشينة. * ولقد ذكرت مرارًا وتكرارًا أن أول المتضررين من مثل هذه الحوادث في العواصم الغربية -كما حدث أخيرًا في باريس وبرلين- هي الجاليات المسلمة والتي تعتبرها هذه التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش والنصرة بأنها تستحقُّ القتل إن لم تبايع زعماء هذه الجماعات وتَسِرْ خلف الرايات السوداء، ويلاحظ أن هذه الحركات بدءًا من طالبان ومرورًا بالقاعدة وانتهاء بـ (داعش) تستغلُّ الحماس الفطري لدى صغار الشباب من الغرب حتى تتلوث أيديهم بدماء الأبرياء كما رأينا في المشهد البربري الذي قام به من أُطلق عليه الجهادي (جون) وهو من جذور عربية حيث كان يجزُّ رؤوسَ بعض الصحافيين والإعلاميين الغربيين بدم بارد. وللأسف نجد في مجتمعاتنا العربية من يتعاطف مع هذه الحركات الإرهابية ولهذا ينأى عن إدانتها ويؤسفني القول إنه بعد قيام داعش كتنظيم إرهابي سئل أحد العلماء -وله كتاب دعاه (الغلو في التكفير)- في قناة عربية معروفة عن رأيه في تنظيم داعش فأجاب (لا أتفق معهم ولكن أعارض شن الحرب عليهم بهذه الطريقة)، وهذا دليل أكيد أن بعضًا من تيارات الإسلام السياسي كانت من خلال ما عرف بمنهج الحاكمية سباقة لتكفير المجتمعات العربية ووصفها بالجاهلية الضاربة الأطناب -كما يزعم صاحب «المعالم»- في أرجاء الأرض جميعًا. ولقد نقلت الوسائل الإعلامية -أخيرًا- الدعوة الموجهة إلى الجاليات المسلمة في الغرب بالانحياز إلى الزي الغربي في اللباس لأن الزي الإسلامي من منظور رؤيتهم لا يتفق مع نظام الحياة الغربي، والبقية في الطريق. ولقد دفعت الجاليات المسلمة في الغرب ثمن ما تقدم عليه الحركات المتطرفة والإرهابية والتي هي أبعد ما تكون عن الإسلام ومقاصده وسلوكياته.
مشاركة :