مع بدء سياسة التضييق على النازحين السوريين الى لبنان قبل نحو عامين ونصف العام، بفعل تَفاقُم الأعداد ووصولها الى ما يتجاوز مليون ونصف المليون، حسب احصاءات الامم المتحدة، وإقفال المعابر إلا لمَن يستطيعون تأمين الشروط الإجرائية التي يطلبها الأمن العام اللبناني من السوريين للحصول على فيزا، بات الهاربون من الحرب واقعين «بين ناريْ» الإتجار بالبشر وابتزازات المهرّبين والعودة الى أرض الموت والجوع. نساءً وأطفال وهاربون من الخدمة الاجبارية يضطرون الى سلوك طرق وعرة في ظل ظروف مناخية قاسية صيفاً ووسط البرد القارس والجليد شتاءً ما يؤدي الى وفاة العديد منهم، في حين يقع العشرات منهم في قبضة دوريات الجيش اللبناني وأجهزة أمنية أخرى اذ يتم ضبطهم خلال محاولة الانتقال سراً عبر المهرّبين الى لبنان، كما حصل قبل نحو ثلاثة اسابيع حين جرى توقيف العشرات من النساء والاطفال والرجال أثناء سلوكهم طرقاً غير شرعية محاذية لمعبر المصنع اللبناني الرسمي. وهذا الواقع ليس إلا انعكاساً لـ «ازدهار» نشاط عصابات تهريب الأشخاص وإدخال العائلات السورية والفلسطينية بطرق غير شرعية عبر المعابر الجبلية الى لبنان في مقابل أموال طائلة، وهو «الخيار المُر» الذي بات كثيرون يلجأون اليه رغم كل مخاطره بسبب الاجراءات المتشددّة التي اعتمدتها بيروت للحد من تدفق النازحين الذين تجاوز عددهم ثلث سكان لبنان، الأمر الذي وضع مديرية الامن العام اللبناني أمام مسؤولية الحدّ من تزايد الوافدين من «أرض النار والدم» من خلال رفْع «شروط الدخول» الرسمي، قبل ان تجد الأجهزة الأمنية لاحقاً نفسها امام تحدي مواجهة «مدّ» المتسللين سراً الى لبنان. واذا كانت بيروت تقارب مسألة الدخول غير الشرعي من زاوية أمنية تتصل بما يحمله ذلك من ارتفاع المخاطر الأمنية وسط الخشية من وجود خلايا ارهابية نائمة في العديد من المناطق اللبنانية كما أبلغ مصدر أمني الى«الراي»، فإن النازحين يتعاطون مع هذه «النافذة» على انها بمثابة «سترة النجاة» رغم كل ما تعرّضهم له من ابتزاز المهرّبين ومن خطر الموت او الاعتقال. وجيه الساعد، النازح من حلب مع عائلته المؤلفة من ثلاثة أطفال وزوجته، اضطر لأن يبيت في العراء لمدة إسبوع بين الحدود اللبنانية - السورية بعدما منعه عناصر الأمن العام من الدخول لعدم قدرته على تأمين أوراق مطلوبة. وكانت هذه الأيام كفيلة بأن يقبل عروض سمسار لأحد المهربين بإدخاله وزوجته وأطفاله مقابل 350 دولاراً، مقابل أن يقطع مسافة نحو 800 متر سيراً على الأقدام في طريق جبلية بعيدة عن عيون أجهزة الأمن اللبنانية. ويقول: «مو قادر ارجع لسورية، حتى وصلنا للشام متنا ألف موتة عالطريق، وبالشام ما في مكان نبرك فيه». يتنهّد الرجل ليروي كيف قبِل بعرض الدخول تهريباً: «بعد محاولات عديدة للدخول شرعياً واستحضار حجز فندقي كلّفني 200 دولار، قال موظف الامن ان الحجز وهمي، ورفض دخولنا. نمنا في باحة مقابل الامن العام، وفي اليوم الثاني أيضاً حاولتُ ومُنعت، وحينها أتى شاب عشريني، وبعدما شرحتُ له ما حصل معي عرض عليّ الدخول بطريقة غير شرعية، مقابل 500 دولار. ترددتُ في بادئ الامر، ولكن حين عجزتُ عن الدخول رسمياً، اتصلتُ بعد أيام بالشاب واتفقتُ معه على مبلغ 350 دولاراً». يضيف: «بعدها اتّصل بالمهرّب الذي أبلغه أن أنتظر في مكان بعيد عن مبنى الأمن العام، واذ بي أجد 6 أشخاص آخرين مع عائلاتهم ينتظرون، ولما أصبحتْ الساعة الثامنة والنصف، حضر شاب وطلب منا ان نسير خلفه، فيما أعطى حقائبنا الى سائق سيارة لينقلها عبر الحدود الرسمية». ويتابع وهو يشيح بيديه: «سرنا على الأقدام بطريق وعرة من الجهة الجنوبية لمعبر المصنع، وسار أمامنا شاب يبدو أنه دليل الطريق، ومشينا لنحو ساعة. حملتُ أنا طفلاً وزوجتي الطفلة والشاب حمل طفلاً. وبعدها وصلنا الى غرفة في منطقة جبلية زراعية، ارتحنا فيها لنحو نصف الساعة قبل ان يأتي شاب آخر وينقلنا بشاحنة صغيرة الى داخل قرية الصويري، هناك وجدنا حقائبنا، ومن ثم أحضر (سيارة فان) ونقلنا الى البقاع الغربي، حيث أمكث اليوم». مريم الدرعاوية القادمة مع ذويها الى شقيقتها في بيروت، باتت هي ايضاً ووالداها يوميْن عند نقطة المصنع اللبناني بين الشاحنات المركونة في محيط مبنى الأمن العام، كونها عندما غادرت قبل نحو سبعة أشهر سُجل لها منع دخول لمدة سنة لأنها خالفت مدة الاقامة المحددة لها. وقالت لـ «الراي»: «أمّنتُ الحجز الفندقي رغم اننا سنقيم عند شقيقتي لمدة شهر، إلا أن الحجز الفندقي يعطينا فقط إقامة أسبوع، وفوجئت عند الحدود بأنني ممنوعة من الدخول لمدة سنة لأنني دخلتُ في المرة السابقة عبر حجز فندقي ايضاً لمدة أسبوع، ومكثتُ عند شقيقتي لأكثر من ذلك. ولهذا السبب دخلت أنا ووالدي عن طريق التهريب ووالدتي دخلت عبر حجز فندقي، وكلفتني الدخلة 200 دولار هي قيمة الحجز الفندقي، وعندما أغادر بدل أن أدفع مخالفة 200 دولار أدفعها للمهرّب وأعود الى بلدي». لا يختلف حال مريم عن حال غياث الهارب من التجنيد الاحتياطي في سورية، ويقول: «دفعتُ 300 دولار مقابل دخولي الى لبنان، كما دفعت لمهرّب سوري عند الحدود السورية 350 دولاراً كي أتخطى حواجز الأمن السورية عند الحدود». يروي أن عملية التهريب عند الحدود تكون في الليل، وتشمل قطع مسافة نحو 2 كيلومتر في جديدة يابوس، ونحو كيلومتر في المصنع اللبناني، ويضيف:»المهرّب طلب مني القسيمة ليتأكد (أني مو مطلوب للأمن)، وحين علِم أنني أيضاً قطعت الحدود السورية عن طريق التهريب، طلب مني 600 دولار، وبعد إلحاح وتوسُّل وتدخل شخص آخر، خفّض المبلغ الى 350 دولاراً. وبعدها وجّهني مع سبعة أشخاص آخرين للسير خلفه مسافة نحو 700 متر، في منطقة جبلية، وعند وصولنا إلى أطراف منطقة في وادٍ عرفتُ في ما بعد أنها تدعى وادي عنجر نقلنا بسيارة الى إحدى المنازل ومكثنا فيه لصباح اليوم التالي، الى حين وصول قريبي الذي «امكث عنده اليوم». وللإضاءة على واقع التهريب و«أسراره» التقت «الراي» المُهرِّب «سليم» (اسم مستعار) الذي تحدّث عن نشاطه. لا يخفي الشاب الثلاثيني عمله في التهريب، رغم رفضه تسمية «تجار البشر»، وقال: «عيب انو يتهمونا بتجارة البشر»، واضعاً ما يقوم به في سياق «إنساني» باعتبار أن الأكثرية الساحقة من الذين يدخلهم الى لبنان من الأطفال والنساء الهاربين من الموت والجوع. لا ينفي «سليم» أنه أيضاً يهّرب رجالاً وشباباً فارين من الخدمة الاجبارية والاحتياط في جيش النظام السوري. ويروي كيف امتهن تهريب الاشخاص عبر الحدود البرية غير الشرعية، قائلاً: «كنت أعمل في محيط مبنى الأمن العام بإنجاز معاملات الأجانب والعرب الوافدين من الدول العربية عبر الحدود البرية، وحين توقف عبور السواح عبر هذه النقطة، عملت بتصريف العملات، أيضاً في باحة الامن العام. وعندما ضيقوا علينا الخناق ومنعونا من الصرافة، وجدتُ نفسي أمام طلب من السوريين للدخول تهريباً، وصرت أؤمن لأحد المهرّبين أشخاصاً يودّون الدخول تهريباً، مقابل 20 دولاراً عن كل شخص، وبعدها بفترة وجدت نفسي أمام مسؤولية تكبير عملي، ووضعت سماسرة في محيط الحدود، ودليل طريق». وأوضح ان نحو مئة شخص يستفيدون من هذه «المهنة»، بين وسيط وسائق سيارة وفان، وبين دليل طريق. وينكر أن يكون من الذين يهرّبون عناصر لتنظيمات متشددة «أكثر الذين أُدخِلهم هم مَن يعجزون تأمين كفيل، أو حجز فندقي، ويكونون مروا من عند الامن العام السوري ولديهم قسائم، والبعض الآخر يكون هارباً من الخدمة العسكرية»، مقدراً أن عدد الذين يدخلون يومياً تهريباً يراوح بين 150 و 200 شخص، والعدد ذاته أيضاً في المغادرة، فمَن يدخل تهريباً اليوم غداً يخرج أيضاً تهريباً». أما كيف يتحوّل وضْع الداخلين خلسة الى لبنان ولا سيما السوريين، فهذا له اجراءات تخفيفية لا تنطبق على غير السوريين، وذلك بسبب الوضع الأمني في بلادهم. وهذه حال جميل سعد الذي تمّ إلقاء القبض عليه عند حاجز الجيش في ضهر البيدر أثناء انتقاله من البقاع الى بيروت في «فان» إجرة، فهو كان دخل خلسة قبل شهر، وعندما اوقفه عناصر الجيش تمت إحالته الى الامن العام بعد التحقيق معه، ومن ثم أودع جميع أوراقه على أن يسوي اقامته في لبنان خلال 15 يوماً. ويقول: «تم توقيفي ثلاثة ايام وبعدها باشرتُ بمعاملة للحصول على اقامة لمدة ستة أشهر تُجدد تلقائياً لسنة، بعد دفع غرامة مئتي دولار، عدا عن عقد الايجار والتعهد من عند كاتب العدل بعدم العمل، وهكذا سوي وضعي القانوني». مصدر أمني مطلع أوضح لـ «الراي»، أن عمليات التهريب تزايدت في ظل إجراءات الامن العام المعقّدة، من دون أن توضع خطة بالتوازي مع الأجهزة الأمنية والعسكرية للحد من تزايد الدخول خلسة، وهو ما يرفع من نسبة المخاوف من إدخال إرهابيين، وهذا يسهّل عملهم كخلايا نائمة كونهم لم يمروا على أجهزة الأمن ولا سجلّات لهم». وتابع «أن الاجراءات المتشدّدة ضاعفت أعداد العاملين في التهريب حتى بلغ عددهم أكثر من 70 مهرّباً يهربون يومياً بالاتجاهين أكثر من 300 شخص. وهم يعتمدون مسربيْن للتهريب، واحد من الجهة الشرقية الشمالية في خراج بلدة مجدل عنجر البقاع الاوسط، والمسرب الآخر من الجهة الجنوبية الغربية، ويقطع المهربون عبر مسالك وعرة مسافة نحو كيلومتر في خراج بلدة الصويرة في البقاع الغربي». في المقابل، يرى مصدر رفيع المستوى في الامن العام رفض الافصاح عن هويته، أن الاجراءات المشددة سبب رئيسي في تَزايُد التهريب، لافتاً الى «اننا الآن بصدد تسطير مذكرة الى المديرية تلحظ وجوب تسوية وضع السوري العائد المخالِف من دون وضع منْع دخولٍ له إلا في الحالات الاستثنائية، لأن ذلك سبب رئيسي في تزايد التهريب، كذلك موضوع الاسر التي لدى أحد أفرادها عقد ايجار وكفالة، فهنا تنتفي مسألة الحجز الفندقي، أو عقد إيجار لكل شخص بشخصه. وأيضاً هناك موضوع الاولاد الذين يدخلون برفقة أعمامهم وأخوالهم، فما دامت السلطات السورية أجازت لهم الخروج بناءً على توكيل، لا يجوز أن نرفض دخولهم من دون موافقة الابوين، وهناك حالات أطفال السوريات واللبنانيات المتزوجات من فلسطيني سوري، فلا يعقل أن يُسمح للأم بالدخول ويُمنع دخول الطفل أو الطفلة كونها فلسطينية، أو انتظار موافقة مدير عام الامن العام على الدخول وهذا يتطلب وقتا طويلاً، والمفروض أن يلحظ القانون هذه الحالات». وأضاف المصدر: «لا يمكن أن تضع السلطات اللبنانية عند كل متر في الحدود البرية عسكرياً لمنع التهريب، ولا بد من تسهيل الشروط لتخفيف التهريب وتسهيل مكافحته».
مشاركة :