كانت تعليقات مؤيدي المُعارضة على هزيمة تنظيم «داعش» في بلدة منبج السورية على يد «قوات سورية الديموقراطية» (الكُردية) مُتخمة بـ «الشعور بالخسران». وكانت المؤازرة الدولية لهذا التشكيل العسكري «الكُردي» تُثير لديهم تساؤلاً بسيطاً: «لماذا هُم وليس نحن!؟»، وكانت أجوبتهم المُستبطنة تتراوح بين تفسير ذلك بالمؤامرة الدولية التي تطاولهم، ولا تنتهي عند اعتبار الكُرد أداةً للنِظام السوري والمُجتمع الدولي في كسر شوكة الثورة السورية. في موازاة ذلك، كان ينهض لديهم شعور مُباين تماماً لذلك، يقول بأن هذه الهزيمة إنما طاولت تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي مزق ثورة السوريين وحطم المجتمعات والجغرافيا السورية التي حررها السوريون من سطوة النظام ببذل آلاف الضحايا. لكن في المحصلة، كان ثمة ما يصرخ في دواخلهم: لماذا هم نالوا ذلك «المجد» وليس نحن، ونحن أغلب سُكان سورية وأصحاب قضيتها، وأكثر من يستحق سحق تنظيم «داعش»، الذي حطم قضيتنا ومجتمعاتنا المحلية؟! ليس أقل من ذلك كان حال النقاش الكُردي الداخلي حول تلك المعركة التي طالت لشهور. فالأكراد السوريون بعامتهم كانوا يتساءلون: «لماذا علينا بذل كُل هذه التضحيات في سبيل مدينة غير كُردية، ولا تشكل حتى خطراً على البقعة الجُغرافية السورية التي يُشكل فيها الكُرد غالبيةً سكانية؟! وحتى لو كان ذلك في سبيل «توحيد» مناطق سيطرة «قوات سورية الديموقراطية» على كامل الشمال السوري، فهذا التوسع سيفضي مباشرةً لأن يغدو الكُرد أقليةً في تلك المنطقة الجُغرافية الفضفاضة. أخيراً، فجميع هذه الحروب التي يسقط فيها مئات الشُبان الأكراد، إنما تجري من دون أية ضمانة دولية أو حتى «وطنية» لحفظ الحقوق الكُردية في مستقبل سورية. بل على العكس تماماً، فإنها تُفضي إلى المزيد من التشكيك «الداخلي» بالسياسات والسلوكيات التي ينفذها هذا الحزب الكردي في معاركه وسياسياته، ومن طرفٍ آخر فانها تفضي إلى المزيد من مُمارسته لسياسة شمولية بحق الأكراد السوريين أنفسهم. إذ بعد يومين من انتهاء معركة منبج اعتقلت القوى الأمنية التابعة لحزب «الإتحاد الديموقراطي الكُردي» رئيس «المجلس الوطني الكردي» إبراهيم برو ونفته إلى كُردستان العراق، وبعده بأيام اعتقلت العشرات من كوادر وقيادات الأحزاب الكُردية السورية المُناهضة لسياسة الحزب، ثم بعد أيام قليلة هاجمت جنازات شهداء لأحزاب كُردية أخرى، قُتلوا في معارك مشابهة مع تنظيم داعش». النِظام السوري ومنُاصروه لم يكونوا أقل حسرةً. فليس بعيداً من معركة منبج التي تم فيها تحطيم «داعش» في شكل نهائي، لم يستطع النِظام بكل إمكاناته الاستثنائية، وبمُساندة عشرات الجماعات الطائفية المؤيدة له، وبغطاء جوي روسي تام، فرض حصار على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، وتعرض لهزيمة واضحة في مواجهة تشكيلات المعارضة والقوى الإسلامية المُسلحة. ولم يكن تزامن هذين الحدثين مجرد هزيمة نفسية لخطاب النظام الذي يؤكد مُنذ بداية هذا العام أن استراتيجيته إنما تقوم على «استرجاع» مدينة حلب وقطع الخطوط بينها وبين الحدود التركية. كان لذلك التزامن بين هزيمة داعش في منبج وهزيمة النظام في شرق حلب وجنوبه أن ثبّت النظام كأحد الفاعلين العسكريين في المعارك السورية، وليس بوصفه الطرف الأقوى والأقدر على توجيه ضربات قاصمة في ما لو أراد. من جهة أخرى، نُزعت من النظام نزعته النرجسية لاحتكار الشرعية. فها هي قوى دولية تنسق مع طرفٍ غيره في الساحة السورية، وهي تنسق في شكلٍ عسكري استراتيجي وتنتصر، الشيء الذي كان النظام يعتبره على الدوام انتقاصاً من «سيادته» و «شرعيته». أما الإسلاميون السوريون من غير الدواعش، فهالتهم الصور المتأتية من المدينة «المُحررة»، والتي كانت قبل كُل شيء تُعبر عن فرح السكان بخلاصهم من سلطة دينية، سلطة كانت تفرض ما يحلم هؤلاء الإسلاميون بفرض أشكال منه مستقبلاً، في ما لو دامت لهم السُلطة، وهم يفعلون ذلك في الكثير من المناطق السورية الأخرى. لقد رأى الإسلاميون السُكان المحليين في منبج وهم سعداء بخلاصهم من هذه السُلطة الدينية، وأنهم لا يبالون باستراتيجة وهوية هذه القوة العسكرية التي يمكن أن تخلصهم. استبطن الإسلاميون السوريون بعد معركة منبج حساً بالمزيد من التباين بينهم وبين مجتمعاتهم المحلية التي يدعون تمثيلها وتمثيل قيمها. كل تلك «الذوات» كانت تعاني من جروحٍ فيها، أيديولوجية وسياسية، في خطهها وبرامجها ومخيلاتها. أما الوحيدون الذين كانوا يعانون من جرح عميق فهم أهل منبج نفسها، لأن جرحهم كان دوماً في تفاصيل حياتهم، وفي آلام خساراتهم لحاضرهم ومستقبل أبنائهم. * كاتب سوري
مشاركة :