الشارقة: محمد أبو عرب أنتجت حالة النهوض الثقافي والمعرفي في الإمارات سلسلة من التغيرات في واقع الكاتب والناشر والقارئ المحلي، فلم تكن النهضة الثقافية متمثلة في عدد المؤسسات الراعية للفعل المعرفي وحسب، أو في مستويات الكتاب الإماراتيين سواء الشعراء، أو الروائيين أو غيرهم، وإنما تجلت بصورة واضحة خلال السنوات الخمس الأخيرة في تزايد ملحوظ في عدد دور النشر المحلية المعنية بتقديم الكتاب الإماراتي إلى القراء في الإمارات. انكشف هذا الواقع في تتبع عدد دور النشر التي ظهرت، ومستويات حضورها، ونوعية طباعتها، وغيرها من المعايير التي تفرض حضورها في واقع النشر العربي، إذ يتذكر الكاتب الإماراتي منذ أواخر السبعينات وحتى بدايات الألفية الثانية أنه كان يلجأ إلى دور النشر العربية الأكثر حضوراً، سواء المصرية منها، أو اللبنانية، أو الأردنية، أو غيرها من الدور التي قدمت مؤلفات كبار الكتاب في المشهد الثقافي الإماراتي اليوم، وإصداراتهم الأولى. لا يمكن قراءة هذا النهوض والنمو المتسارع في الساحة الثقافية الإماراتية بتتبع أعداد دور النشر وحسب، فالكثير من المتغيرات التي تشكل هذا الواقع تشير إلى حالة تكامل ثقافي واضح، تقودها المؤسسات الثقافية الرسمية، والمؤسسات الأهلية، إلى جانب الكتاب والمثقفين الفاعلين في المشهد المحلي. يمكن بالوقوف عند أعداد دور النشر المحلية المشاركة في معرض أبوظبي للكتاب مثلاً، الوصول إلى نسبة تقريبية لما وصلت إليه أعداد مؤسسات النشر في الإمارات، إذ بحسب الأرقام المسجلة في الدورة الرابعة والعشرين لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، ظهرت زيادة ملموسة في أعداد هذه الدور، فبلغت أكثر من 99 داراً ومؤسسة، فيما شاركت 32 داراً في الدورة السابقة عليها، الأمر الذي يجعل واقع النمو يصل إلى 300% خلال عام واحد. تفتح هذه الأرقام الباب على سلسلة من التحولات في المشهد الثقافي الإماراتي، فهل الزيادة في عدد دور النشر جاءت نتيجة وعي بأهمية وجود مثل هذه الدور، أم أنها استجابة لحاجة السوق المحلي، وظهور الكثير من المؤلفات الجديدة للأجيال الشابة؟ وما هي أنماط القائمين على دور النشر، هل هم طارئون على المشهد الثقافي أم هم مثقفون وكتاب فاعلون، عارفون بما يحتاج إليه الواقع الثقافي المحلي؟ وإن كان الناشرون مثقفين وكتاباً، فما أثر ذلك في الحالة الثقافية المحلية؟ أسئلة كثيرة يفرضها واقع النشر الإماراتي، وسرعة تناميه، فلا يمكن الوصول إلى إجابات خالصة حولها، من دون تتبع نماذج واضحة من دور النشر القائمة محلياً، إذ تكشف الإصدارات الظاهرة خلال العامين الماضيين أن مجملها جاءت لكتاب إماراتيين، جنباً إلى جنب مع عدد أقل من المطبوعات سواء المترجمة، أو من أعمال الكتاب العرب، الأمر الذي يشير إلى أن تزايد دور النشر جاء استجابة لتزايد عدد الكتاب الإماراتيين والاهتمام بالمنتج الإبداعي والمعرفي المحلي. تضاف إلى حالة تزايد حركة النشر التي جاءت استجابة لحاجة السوق المحلي، حركة دائبة في المبادرات والأنشطة الثقافية في الدولة خلال الخمس سنوات الأخيرة، التي تزداد يوماً بعد يوم، وتتجاوز واقعها المحلي نحو الإطار العربي، وتهدف إلى تعميم المعرفة، وزيادة معدلات القراءة، سواء تلك المبادرات المتعلقة بقراءة الطفل، أو تعميم المكتبات على كل أسرة في الدولة، أو غيرهما من المشاريع. إلى جانب ذلك تكشف معارض الكتب وما قدمته من خبرات للمثقف الإماراتي، على صعيد التعامل مع الناشرين العرب والعالميين، والتعرف إلى دور كبير حقق نتائج لافتة في واقع الحركة الثقافية المحلية، وفتح الباب أمام المعنيين بالشأن المعرفي لطرح تجاربهم في تسويق الكتب وتوزيعها وطباعتها. ومع متابعة نشاط هذه الدور نكتشف أنها تتميز عن غيرها من دور النشر العربية في أن مؤسسيها هم من الكتاب، والشعراء، والمثقفين الفاعلين في المشهد الثقافي الإماراتي، مثل: دار ورق للنشر التي أسستها الكاتبة عائشة سلطان، ودار (كتّاب) لمؤسسها الكاتب جمال الشحي، ودار (نون) التي تعمل على نشر الأعمال الجادة والمرتبطة باهتمامات المجتمع العربي ونمائه الثقافي، وهناك دار (الهدهد) التي أسسها الشاعر علي الشعالي، ودار (الياسمين) للكاتبة مريم الشناصي، وغيرهم من الكتاب والشعراء, يشكل هذا الواقع إضافة نوعية لحركة النشر المحلي، فالقضية الإشكالية التي يقف فيها الناشر بين حرصه على الربح وفي الوقت نفسه حرصه على تقديم المعرفة وتعميم فعل القراءة، يكاد يكون محلولاً في واقع النشر الإماراتي، لتصبح دور النشر بمثابة مشاريع ثقافية هدفها الأول تنويري معرفي جمالي، يلي ذلك الجانب المادي.
مشاركة :