الإبداع يقود الاقتصاد اليوم، وبطبيعة الحال فإن المبدعين سيقودون المجتمعات والدول، وهم الأرستقراطيون الجدد، أو النخبة التي يفترض أن تحدد وجهة الدول والمجتمعات والمدن والأسواق والثقافة والقيم. لم يحدث ذلك بعد ولكنه سوف يحدث حتماً، وسوف تنقرض النخبة السائدة أو تعيد إنتاج نفسها، كما حدث من قبل لطبقات ونخب كانت سائدة ومهيمنة، كبار ملاكي الأراض والمواشي والفرسان على سبيل المثل! يتشكل الإبداع في السلوك المعرفي والمهني بما هو تراكم المعلومات والمعرفة وتحويلهما إلى إبداع أو حكمة، ويجرى ذلك في مسارين لإنتاج المعرفة وبنائها؛ تنظيم المعرفة وفوضى المعرفة، ففي تنظيم المعرفة وهو المسار التقليدي والأكثر حضوراً وتأثيراً ومؤسسية (ولكنه أقل إنتاجاً للإبداع والحكمة في مرحلة التحولات الكبرى القائمة) تتشكل وتتراكم المعرفة والمهارات والتجارب وتتطور في عمليات يومية يقوم بها عادة الأكاديميون والمهنيون وعلى نحو بطيء وغير مقصود في تقديم المعرفة وتبسيطها والإضافة والحذف والمقارنة والنقد والتأييد والمعارضة للاتجاهات المعرفية والفكرية والفلسفية وفي العمل اليومي الروتيني في قاعات الدرس ومراكز البحث والنشر. ولكنها في خيرها الكثير تتضمن شراً كثيراً من السلفية المعرفية والجمود والغش والإقصاء والتهميش. وتتميز أيضاً عمليات تنظيم المعرفة بفرص التمويل والإنفاق العام والتبرع. وتمنح للعاملين فيها فرص الارتقاء الوظيفي والتأثير العام والإعلامي والسياسي، لكنها تقصي بحسن نية وبسوء نية أحياناً الفكر النقدي والمختلف. وفي المسار الثاني بما هو البحث عن الحقيقة على نحو مستقل عن المؤسسات والتقاليد القائمة (الفوضى)، تتشكل معارف وإبداعات من خلال عمليات للبحث عن الحقيقة تخلو من المصلحة والتحيز، وتكون لأجل الحقيقة فقط أو الاقتراب منها. وتقوم عليها عادة مجموعات من المثقفين والمبدعين والهواة غير المتفرغين للفكرة التي يبحثون فيها أو المتخصصين الذين يعملون في غير مجالاتهم بعيداً عنها أو بالإضافة اليها، فيقدمون إضافات أو إبداعات مهمة بسبب الدافع القوي، أو تداخل المعارف والعمل في تخومها حيث تقع عادة الإبداعات والإضافات. مشكلة هذا المسار فقره وعدم الاعتراف به وقلة الوقت، كما أن حب الحقيقة مثل جميع أنواع الحب بلا مصلحة أمر نادر وغير كافٍ، ولكن هؤلاء الثلة من محبي الحقيقة يمثلون ضرورة كبرى للمعرفة. إذ يمنحونها الجمال والحافز والمشاركة العامة، كما أنهم وهذا هو الأهم يمثلون ضمير العمليات المعرفية والرقابة الروحية بل المؤسسية على عمليات إنتاج المعرفة وتنظيمها. تمثل موسوعة ويكيبيديا مثالاً إبداعياً لفوضى المعرفة، حيث يملك جميع الناس فرصة المساهمة والتحرير في إعداد وتصحيح المادة المعرفية، وأنتجوا موسوعة هائلة بعشرات اللغات، لعلها المرجع الأكثر استقبالاً للباحثين أو هي على الأقل أول مرجع يقصده الباحثون والكتاب والقراء في خطوات بناء المعرفة وتشكيلها، وتصلح ويكيبيديا مثالاً يمكن تكراره وتطبيقه في مجالات معرفية ومؤسسية وخدماتية أخرى كثيرة، إذ يمكن إنشاء وحدات خدمية وثقافية للمشاركة في الإنتاج والاستهلاك المعرفي، وأصبح موقع يوتيوب مكتبة هائلة بلا حدود للتعليم والتدريب والتثقيف والفنون والترفيه. ولكن في هذه الفوضى الإبداعية وفي قدرة الناس على العمل بأنفسهم وعلاج وتعليم أنفسهم؛ تنشأ أسئلة من قبيل: ما معنى طبيب؟ ما معنى معلم وأستاذ؟ ما معنى مدرسة وجامعة؟ عمليّتا تنظيم المعرفة والبحث عن الحقيقة ضرورتان ومستقلتان ومتداخلتان ولكنهما لسوء حظنا (نحن العرب) لا تعملان بكفاءة من غير حرية، فلا حكمة ولا إبداع بل لا معرفة من غير حرية. * كاتب أردني
مشاركة :