مامن أمرٍ يمكن أن يكون مطلوباً من أهل المسؤولية والقرار أكثرَ من الوضوح والصراحة حين يتعلق الأمر بالسياسات العامة للبلاد، وتحديداً بالرؤية التي تقوم عليها تلك السياسات، والفلسفة الأساسية التي تُعتبرُ جوهرها. يتأكدُ هذا بشكلٍ حساس حين يصدر عن المسؤولين في المملكة، ويتأكد أكثرَ حين يصدر في مثل هذه الأوضاع العالمية المعقدة، ويتأكدُ أكثرَ وأكثرَ حين يتضمن مثل تلك الإشارات الهامة التي وردت في كلمة أمير منطقة المدينة المنورة فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، ومن موقعه المُعبر، كمسؤولٍ أول عن تلك المنطقة التي انبثقت منها رسالة الإسلام إلى العالم. تتضمن كلمة الأمير منذ أيام، خلال استقبال رؤساء بعثات الحج الرسمية من العالم بأسره، وفي معرض الاستعدادات لاستضافة موسم هذا العام، حشداً من العناصر الأساسية للرؤية المذكورة كان لابد من تذكيرهم، والعالم معهم، بها بكل قوةٍ ووضوح: 1- الإسلام ليس فقط دين «التسامح» بمفهومه الحيادي البارد الذي يكاد البعض يحصره، جهراً أو سراً، في عدم الاعتداء على «الآخر» وقتله، وكأن هذا بحدِّ ذاته فضيلةٌ ومِنة، وإنما على العكس من ذلك، الإسلام يقبل وجود الآخر أياً كان، ويعتبر هذا الوجود من طبيعة سنن الله في خلق العالم والإنسان، بل ومدخلاً للتعاون والتكامل لما فيه خير البشرية جمعاء. 2- لاعلاقة للإسلام الحقيقي، من قريبٍ أو بعيد، بممارسات بعض من ينسبون أنفسهم إليه زوراً وافتراءً، ممن يحصرون تعاليمه في ممارسة العنف والتطرف والإرهاب والغلو باسمه. 3- لايوجد اسمٌ آخر لهذه الممارسات سوى الإجرام. ليس في هذا الأمر مداورةٌ أو تدليسٌ أو تلاعبٌ بالكلمات، ولايجوز أن يصدر هذا عن أيٍ كان وبأي حجةٍ أو تبرير. ٤- الحج عبادةٌ جامعةٌ يكمن هدفها الأصلي في لقاء الناس، من كل جنسٍ ونوعٍ ولون، وتعارفُهم في أجواء الأمن والسكينة والرحمة. وتأمين الشروط والظروف التي تُحقق هذه الأجواء هي واجبٌ على المملكة، وليست حقاً لها. لكن ثمة رسالةً خاصة، في غاية الأهمية، كانت تكمن في ما قاله الأمير، ربما يجدر تسليط الضوء عليها واستقراء معانيها. وذلك حين أشار إلى وثيقة أو معاهدة المدينة التي أبرمها الرسول الكريم مع سكان يثرب، بِعَرَبِهم ومشركيهم وقبائلهم ويهودهم. والمقصود تحديداً هنا إشارة الأمير إلى أنه عليه الصلاة والسلام «أدرك أنه لن يحمي المجتمع سوى قيم التسامح والتآلف والتعايش السلمي بين مختلف مكوناته».. وأن معاهدة المدينة «كشفت بما تضمنته من قيم الرحمة، وحفظ الأرواح والممتلكات، والتعاون والتناصح لحماية الوطن، وسيادة العدل والتكافل الاجتماعي، الواقع الذي التزم به الحاكم وجميع أفراد دولته». هذه في الحقيقة مقولةٌ تستبطن ما نسميه، في هذا العصر، عناصر عقدٍ اجتماعي متميز، ليس فقط بين المحكومين، وإنما أيضاً بينهم وبين الحاكم. وهي رؤيةٌ في الإدارة السياسية متقدمة، لأنها تتجاوز تلك الأوهام بأن ماسوف يحمي المجتمع هو البطش والتخويف. مامن شكٍ أن «تنظيم امتلاك القوة « بيد الدولة في المجتمع المعاصر أمرٌ أساسي في قيام واستمرار الدول، كما تقول علوم الاجتماع والسياسة. لكن المشكلة تكمن في خرق التوازنات النظرية والعملية، خاصةً حين يُصبح ذلك الامتلاك في نظر البعض مدخلاً وحيداً للتعامل مع واقعٍ اجتماعي لايتحقق فيه، حالَ الاقتصار عليهما، أمنٌ ولاسلام. وهذا في النهاية قصرُ نظرٍ وفقرٌ في الرؤية السياسية، يحسبه البعض، واهمين، شطارةً في إدارة السياسة. بالمقابل، تُعيد كلمات أمير مدينة الرسول تصحيح المعادلة، وتضع عناصرها في مواقعها المضبوطة بحسابات دقيقة. وفي مثل هذا الوضع العالمي المُفعم بالفوضى من ناحية، والذي يبحث فيه البعض عن «كبش فداء» يُلقي عليه، كُلياً، تَبعة تلك الفوضى، يأتي طرحُ هذا الموقف أمام العالم بأسره، بوضوح وصراحة، ممارسةً تتجاوز العلاقات العامة بكثير، ويُصبح تأكيد الكتاب والمثقفين على معانيها مطلوباً بإلحاح. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :