ثمة وقتٌ لابد فيه من إعطاء (بعض ثمار المدينة). لكن الحسابات المتعلقة بهذا الموضوع يجب أن تكون دقيقة. فكما أن إلغاء هذه الفكرة بالكامل من الأذهان، والقرارات، يندرجُ في إطار مثاليةٍ طوباوية لاتصلحُ للتعامل مع العالم، يُصبح الاستعجال فيها، والاستسلامُ لإغراءاتها، مدخلاً لخسارات استراتيجية قد تضيع معها كل الثمار. القصة معروفةٌ في تاريخنا، ولا حاجة بنا إلى إعادة الحديث في تفاصيلها. لكن المقام اليوم هو مقام البحث في دلالاتها وأبعادها، خاصةً عندما يتعلق الأمر باستحضار المعاني الاستراتيجية الكامنة فيها لتنزيلها على واقعنا المعاصر.. فتاريخنا ليس مجموعةً من القصص المسلّية التي تحكيها الجدّات للأطفال في ليالي الشتاء الباردة أمام المدفأة قبل النوم، وإنما هو تجربةٌ إنسانيةٌ معرفيةٌ تزخر بالمعاني والعبر، وبإشارات يمكن أن تكون مصدراً مهماً للفعل البشري على كل مستوىً وفي كل صعيد. فمنذ الأيام الأولى لذلك التاريخ، كانت تأتي تلك اللحظات الصعبة التي يتوجب فيها اتخاذ قرارات في غاية الحساسية والخطورة تتعلق بمسألة (الوجود) نفسها. الأمر الذي كان – ولا يزال – يتطلب على الدوام، رؤيةً في غاية الشمولية، وحسابات في غاية الدقة، وقبل ذلك كله شعوراً بالمسؤولية في أعلى الدرجات. ذلك أن من طبيعة مثل تلك المراحل المفصلية أن تتسبب في مقادير من الضغط النفسي على أغلب البشر، وبشكلٍ تكون معه الشمولية في الرؤية والدقة في الحسابات في غاية الصعوبة. حتى عندما يتعلق الأمر بمتميزين يذكر التاريخ ردود أفعالهم في مثل تلك المواقف، وكيف كانت تتمحور على الدوام حول المقولة المشهورة: «ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فلمَ إذاً نعطي الدنيّة؟». رغم ذلك، كانت الرؤية الشمولية، وكانت الحسابات الدقيقة، تستوعب العواطف المتأججة خلف تلك المقولة، وتربتُ على أكتاف أصحابها، وتُطيّب من خواطرهم، وتطلب منهم الصبر والرويّة، ثم تمضي في اتجاهٍ آخر، كان يَظهر بعد قليل، أنه الاتجاه الصحيح. ولكن، يأتي بعد كل هذا سؤالٌ كبير: ما الذي يضمن أن يكون القرار ويكون الفعل البشري في مثل تلك المراحل الحساسة مبنياً حقيقةً على رؤية شمولية، وناتجاً فعلاً عن حسابات دقيقة؟ ففي هذا الواقع الذي تداخلت فيه الأمور وتعقّدت فيه المعادلات، ينبغي التحفز دوماً لإمكانية الخلط بين المبادرة والاستعجال، وبين التروي والاسترخاء. من هنا تظهر ضرورة البحث عن كل (الأبواب المتفرقة) التي يمكن (الدخول) منها، قبل التفكير في إعطاء بعض الثمار، تجنباً لكل أنواع العقم الفكري والنفسي التي تصيب الكثيرين، فتمنعهم من رؤية التنوع الهائل في مناشط الحياة البشرية وإدراك ارتباطاتها، وتحصرهم في أشكال تقليدية جامدة للتفكير والحركة لا ينظرون إلا عَبرها ومن خلالها إلى هذا العالم الكبير. ولو انتبه هؤلاء من غفلتهم، لأبصروا حجم الأغلال والقيود الوهمية التي تقيّد حركتهم، ويريدون لها أن تُقيد حركة الجميع. ولرأوا فسحةً في الوسائل والأساليب والمداخل، وفقهوا دعوة (يعقوب) عليه السلام، وشاهدوا تلك (الأبواب المتفرقة) التي لا يمكن تحصيلُ المصالح، وتغيير الواقع المهترىء الذي يشكون منه، إلا بالدخول منها جميعاً، بعيداً عن معاني الاستسهال والاستسلام، وعن قِصر النظر المتخفي في إهاب الحكمة ولبوس العُقلاء. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :