لن نستغرب التوصيات التي خرجت عن المؤتمر الذي عقد مؤخرا في مدينة غروزني الشيشانية والتي يتبدى فيها واضحا بعد أول قراءة أن هناك عملية إقصاء واصطفاء واضحة، لأن الاقصاء من أبرز سمات الفكر الديني المنغلق الذي يقوم على ثنائية الخير والشر والذي لاتتحقق هويته إلا عبر إلغاء الآخر أو تكفيره. حتى لو كان في هذا تحييدا لأحد ألوان الطيف المذهبي وإحداث انشطار عميق داخل بنية المذهب السني، وترسيخ انقسامات مذهبية قديمة عمرها ألف عام بين الأشاعرة والحنابلة والماتريدية. طبعا المكان الذي عقد فيه المؤتمر والتوقيت، يبرز اللمسات السياسية والمخابراتية فيه، وقد يكون هو جزءا من حل شامل تنظمه روسيا وعدد من دول المنطقة لمستقبل استراتيجياتها ومناطق نفوذها. وتأسيس مركز (تبصير) الذي أوصى به المؤتمر هو إعادة برمجة للخطاب الديني وفق مصالح تتناسب مع تلك الدول وسياساتها. ولكن بالتأكيد تلك الدول اختارت الترياق الخاطئ، فقد فتحت صندوق باندورا الذي تظهره الأسطورة الإغريقية مخزنا للشرور، وأطلقت خلافات مذهبية قديمة تعود للقرن الرابع الهجري، بين الحنابلة والأشاعرة، حول شبه التجسيم، والعقل أمام النقل، وسواهما من الخلافات العقدية. وبعيدا عن كون هذا المؤتمر واجهة لما خلفه أو هو حشد واستقطاب، لكن الجميع يعرف أن توظيف لعبة السياسة في الدين لهب خطر لا يحرق سوى مشعله، هو تنين بألف رأس من شأنه أن يكتسح المنطقة بالمزيد من الفتن. وعندما تطالب توصيات المؤتمر بـ(عودة مدارس العلم الكبرى، والرجوع إلى تدريس دوائر العلم المتكاملة التي تخرج العلماء والقادرين على تفنيد مظاهر الانحراف الكبرى) سنجد بأنها ردة كبرى لم يعد العصر ولا طبيعته ولا متطلباته أن تفتتح هذا النوع من المدارس/الكتاتيب التي حتما ستعيد تدوير الأفكار التي تستمد مصداقيتها عبر طمس الآخر ونفيه، في زمن تسير فيه شعوب الأرض نحو أزمنة التعايش والتسامح والانشغال بنهضة الشعوب ومشروعاتها التنموية. واختلف المسيحيون منذ مجمع خلقدونية عام 451 ميلادي على الطبيعة الواحدة للمسيح عليه السلام، وحدث إثر ذلك انشقاق في الكنائس واشتعلت الفتن المهلكة، وأطاحت بممالك، وسالت أنهار الدماء، ولم ينج منها العالم المسيحي إلا حينما انتصر للعقل وللإنسان ومملكته على الأرض في عصر النهضة الحديثة. من ناحية أخرى اتسمت بعض ردود الفعل المحلية بالغضب والتشنج والتنابز ضد مؤتمر الشيشان، وجميعنا يعرف بأننا إذا سلكنا هذا الدرب فلن نعود منه، طالما أن الطرف الآخر سيكيل لنا بنفس المكيال، وإذا عرفنا أن فتنة الحنابلة والأشاعرة عمرها الآن ألف عام، فلن يريبنا أنها ستستمر ألف عام أخرى إذا وجدت الحواضن والمخصبات التي تساعدها على التمدد والانتشار. التحدي الكبير أمام المملكة الان ولاسيما أن هناك أصابع اتهام مضمرة ضدها في ذلك المؤتمر، هو تمسكها وإصرارها على السياسة الحازمة التي انتهجتها لمحاصرة فكر التطرف ميدانيا وفكريا. وصياغة علاقتنا في المنطقة على أسس المصالح الاستراتيجية واستقرارها وحمايتها من الاضطرابات، مع المضي قدما في المشروع التنموي الذي سيجعل المملكة مركزا نهضويا وصانعا للحضارة. ولعل موسم الحج الذي بات على الأبواب يكرس دور المملكة في سدانة الحرمين واستقبال الحجاج المسلمين من أصقاع الأرض باختلاف مذاهبهم وطوائفهم وطرقهم، وبتعدد أجنداتهم السياسية ما ظهر منها وما بطن.. جميعهم لهم حيز ومكان وتبجيل واحتفاء فوق أرض الحرمين.
مشاركة :