تُفهم الحداثة كمصطلح ثقافي ذائع الصيت على وجهين مختلفين وإن لم يكونا متناقضين: أحدهما بسيط يختزلها زمنياً، بحسب ما ذهب شارل بودلير، في القرن الممتد بين منتصف القرن التاسع عشر، والعشرين، باعتبارها تلك الحساسية الجمالية الجديدة التي ذاعت آنذاك بين التيارات الأدبية والمذاهب الفنية. والثاني جدلي، يؤكد امتدادها في عصور كالنهضة والإصلاح الديني والتنوير والثورات الصناعية/ التكنولوجية، والسياسية/ الديموقراطية، باعتبارها جميعاً مراحل تصاعدية في التجربة نفسها، تحمل قيمها العليا وغاياتها الأساسية. في وجهها الأول ربما كانت الحداثة انعكاساً لذائقة غربية وإن تمددت إلى ضفاف الشرق: أدناه وأوسطه وأقصاه. أما في وجهها الثاني فتعكس الحداثة مسيرة الحضارة الإنسانية، حيث تبلورت باطراد المفاهيم الأكثر أساسية فيها (العقلنة والأنسنة والعلمنة). نعم نضجت هذه المفاهيم واتخذت مسمياتها داخل التاريخ الأوروبي، حيث الدين المهيمن هو المسيحية، بجذورها اليهودية، وتحولاتها من الكاثوليكية / الأرثوذكسية إلى البروتستانتية، ومن ثم كانت نتاجاً مباشراً لتلك الحضارة في القرون الخمسة الأخيرة، فهي التي منحت لها الدلالة والمعنى، وأنتجت الوقائع المنسوبة إليها، بل وصاغت العلاقة بين حدودها، ولو على سبيل التقريب لا الإجماع: العقلنة باعتبارها تلك العملية التاريخية التي أنتجت فهماً للعالم يقوم على منطق العقل، المتجذر في تجربة العلم الحديث، بحسب كارين أرمسترونغ، انفصالاً أو استقلالاً عن منطق الروح الذي صاحب الحقبة التقليدية، والمتجذر في الدين والأعراف وربما الأساطير. إنها اللحظة التي بدا فيها العقل الإنساني قيماً على المسيرة الإنسانية، محتلاً موضع المتن في التجربة الغربية، محيلاً الدين إلى موضع السلب، بعد أن كان الدين هو المتن الذي نمت على هوامشه تجارب النهضة والإصلاح وتطورات العلم الحديث، حتى اكتملت الثورة العلمية مع انتصار فيزياء نيوتن وتصورها الحتمي عن الكون والأنسنة باعتبارها تلك اللحظة الفلسفية التي بدأ فيها الإنسان حركته الواثقة إلى مركز العالم، باعتباره مشرعاً للقيم، متحرراً من سطوة علاقات القهر الخارجية، فبدا الإنسان منتصراً مع شيوع فلسفة التنوير، خصوصاً منذ تلك اللحظة التي واكبت إنتاج الموسوعة من لدن المتنورين الفرنسيين الكبار وعلى رأسهم فولتير وديدرو في قلب القرن الثامن عشر، وهو المسار الذي بلغ ذروته مع الألماني العظيم إيمانويل كانط، ثم المثالي هيغل، والعلمنة باعتبارها ثمرة النقد التنويري العملي للدين، أو نقد العقل العملي، الذي لم ينشغل كالنقد النظري، بأصول الحقيقة الإلهية، ولا بجذور الاعتقاد الديني (الطوطمية، والسحرية، والإحيائية) بل صب تركيزه على دور الدين في الحياة اليومية، ودور المؤسسات الدينية في المجال العام، خصوصاً على مشروعية تغولها على نظيرتها الدنيوية/ الزمنية، كما جرت وقائع الهيمنة الكاثوليكية في القرون الوسطى. لكن، وفي المقابل، تبقى تلك المفاهيم انعكاساً للخبرة الإنسانية المشتركة، وهو ما تمكن مقاربته إذا ما حررنا تلك المفاهيم من القوالب النهائية التي التصقت بها، كشفين عن تاريخيتها كحامل لقيم جوهرية، تحمل أسماء ما في حقبة تاريخية بذاتها، وأسماء أخرى في حقبة تالية، على رغم استمرارية مضمونها كقيم كونية لازمة، وسنن مجتمعية مصاحبة لأي نهضة بشرية، من قبيل تأكيد فعالية العقل الإنساني أو حرية الإرادة الإنسانية أو الانشغال الإيجابي بالعالم، إذ لا يمكن تصور نهضة حضارية لدى جماعة بشرية تجمد عقلها، أو اعتقلت إرادتها، أو فقدت اهتمامها بالواقع الدنيوي، وانشغلت فقط بملكوت أخروي أو عالم مفارق. غير أن تلك الفجوة بين الظاهر والباطن، بين السياقات المنتجة للمفاهيم والأخرى الحاضنة لها، حولت الجدل التاريخي بين الفكر العربي وهذه المفاهيم إلى صراعات عبثية أحياناً (الإسلام والحداثة) وعدمية أحياناً أخرى (الإسلام والعلمانية)، ومن ثم استمرت مجتمعاتنا المعاصرة، بفعل اندراجها واقعياً في سياق حضارة كونية، تواقة إلى الغرف من هوامشها التكنولوجية من دون مقاربة لمتونها الجوهرية. والنتيجة النهائية أن تلك المجتمعات التي امتلكت من التكنولوجيا أرقاها، ظلت زراعية غالباً، ورعوية أحياناً، مغتربة عن مثل الحداثة الاجتماعية وفي قلبها الحرية الفردية، مثلما ظلت دولنا، حاضنة الاستبداد والطائفية والقبلية، ممتنعة على مثل الحداثة السياسية وفى قلبها الديموقراطية. وهكذا تم وضع البنزين بجوار النار: عقل مغلق يواجه عالماً مفتوحاً، وعي تقليدي يمتلك منتجاً ما بعد حداثي، مزاج متطرف يحوز أسلحة فتاكة، وهنا يمكن تخيل نتاج تلك الخلطة العجيبة، بل مطالعتها بصرياً وسمعياً كل يوم، بيننا وحولنا، في عمليات القتل وحفلات التدمير، فباتت الضرورة ملحة لإعادة تأطير الحداثة في قلب الثقافة العربية باعتبارها تجربة تاريخية وإنسانية وليست مجرد تجربة غربية. إن المفاهيم الكبرى لا يمكن أن تظل ساكنة وهي تخوض في غمار التاريخ، ولكنها لا تفقد هويتها تماماً أثناء الارتحال الشاق داخل ثنايا التاريخ، إذ تحتفظ بجوهرها المؤسس ثم تضيف إليه ما أمكن لحامليها الجدد أن يضيفوا، أو ما تيسر لمستقبليها من تعديلات فيها. تلك الإضافات والتعديلات، تخضع لمنطق التاريخ نفسه وحركة تطوره، ففي حركة سيره الصاعدة يمكن لبعض المفاهيم أن تتبلور لتسمى جواهر غير مسماة، ولمفاهيم أخرى أن تتعدل لتعبر عن جواهر تم تطويرها، على نحو يجعلها أكثر حضوراً وقدرة على التجسد في زمانها، ولمفاهيم أخرى أن تندثر لأن جوهر ما كانت تعبر عنه قد تحلل وتجاوزه الزمن، وهذا ما نفهمه من حركة التقدم التاريخي، ومنطق التطور العقلي. في هذا السياق نجد للعقلانية جذورا ضاربة في الحضارة العربية الكلاسيكية!، ولكنها بالتأكيد ليست العقــلانـيـة الوضعيــة، المتمحــورة حول المنهج التجريبي، بل العقلانية (الكونية)، التي ترى الطبيعة في سياق مهمة الخلافة على الأرض، حيث بقى المسلم قادراً على الاستدلال من نظامها الكلي واتساقها الشمولي على وحدانية صانعها، ما منحه أفقاً عقلانياً تدبرياً، صحيح أنه ظل تحت الخيمة الإلهية، ولم يبلغ العقلانية الوضعية المطلقة، ولكنه كان الأرقى في سياق زمانه، وإلا فإلام استندت النهضة العربية الأولى؟، فالخرافة لا تنتج حضارة. كما نجد نزعة إنسانية عربية، ولكنها قطعاً لا تماثل تلك الكامنة في صيغة التنوير اليعقوبي المؤكد لمركزية الإنسان، بل صيغة أولية منه لعلها كانت فعالة في تحرير الإرادة من الموروث التقليدي الجاهلي القائم على الروح القبيلة والنزعة الجبرية، وهى صيغة تتجلى في النص القرآني مؤكدة نمط من النزعة الإنسانية يُعلي من الفردية الروحية في اكتساب العقيدة وفى ممارسة العبادة. بل وأيضاً على نمط من الحرية الأنطولوجية (الوجودية)، يتمتع به الإنسان كقطب ثان للوجود، في مواجهة الله قطب الوجود الأول. كما نجد صورة ما للعلمانية السياسية في التجربة الإسلامية، تتجاوب مع النص القرآني في رفض الوصاية الروحية على الضمير الإنساني ولكنها بالقطع ليست تلك العلمانية الحديـــثـــة الموشاة بالديموقراطية الليبرالية، بل علمانية مستبدة صاغتها صراعات السلطة والنزق إلى بناء المجد السياسي للعروش الحاكمة والعائلات الكبيرة. ومن ثم ظلت الحرية السياسية في مواجهة السلطة غير قائمة بالقطع، لدوافع عدة يأتي على رأسها عدم نضج مفهوم الحرية بهذا المعنى السياسي في التاريخ الإنساني، حينما كانت النهضة العربية لا تزال حركة متوثبة قبل نحو عشرة قرون. وهنا يتعين علينا ألا ننسى - ما دمنا نمارس النقد التاريخي - أن كل الدول الإمبراطورية في تاريخ الإسلام، عدا العثمانية، كنت سابقة على دولة فيلسوف السياسة الإنكليزي توماس هوبز، والتي جسدت المثال الأبرز للشمولية الحديثة، بل إن تلك الدول (التي أعلت ولو ظاهرياً من القيم الأخلاقية المبثوثة في الشريعة الدينية) كانت أرقى من الصورة التي رسمها الرجل لواقع الدولة الأوروبية الجديدة ولحال السياسة الدنيوية المفتقرة كلياً إلى الأخلاقية والمفعمة كلياً بروح مادية وسلوكيات انتهازية، وإن ظل لدولة هوبز امتيازها الذي لا يمكن فهمه أو تقديره إلا بالقياس إلى الدولة الكهنوتية السابقة عليها في السياق الحضاري الغربي/ القروسطوي. هكذا وعبر نظرة نقدية مشبعة بالنزعة التاريخية هذه يمكن إزالة شعورنا بالغربة عن الحداثة. بل وبقدر من التأويل المبدع والتنظير المتقن يمكن للحضارة العربية رفد الحداثة بقيم إيجابية، روحية وأخلاقية، تحتاج إليها للحد من غطرستها وتعاليها، الأمر الذي يجعل من الإسلام مكوناً أصيلاً في تيار نقدها، ومصدر إلهام يسهم في تصويب مسيرتها، ولكن شرط أن يقدم هذا الإسهام بطريقة تتجاوز الاستعلاء والجذرية، وتبدي تواضعاً حقيقياً أمام تعقيدات الوضع الإنساني، فلا تدعي إنها بديل كامل لما هو قائم، بل فقط أن لديها ما قد يسد بعض الثغرات البسيطة في البناء الشاهق للحداثة.
مشاركة :