استمع د. ناجى صادق شراب لا يخرج التاريخ البشري عن الصراع بين الخير والشر، العدالة والظلم، الاستبداد والفضيلة، الدين والسياسة، وغير ذلك من التصنيفات الثنائية التي قد تعكس الفطرة البشرية الساعية نحو الكمال. ولقد تمحور جل الفكر الإنساني ومحاولات واجتهادات الفلاسفة والمفكرين في البحث عن الحكم الأفضل، والحكم الرشيد، والحاكم العالم الفيلسوف، ودولة القانون والمواطنة الواحدة في مواجهة فكر متشدد متطرف وعقيدة تدافع عن الحكم المستبد، والحاكم الذي يضع نفسه في مصاف المعصومين. ويتلخص هذا الصراع بين الدولة المستبدة والدولة الإنسانية. وفي هذا السياق جاءت المحاولات من قبل الفلاسفة والمفكرين لتحديد ماهية الدولة الإنسانية وفضائلها وسماتها ومقوماتها، وتحديد ماهية الحكم الإنساني الذي قد يرادف الحكم المثالي أو الرشيد أو الحكم الديمقراطي. والمعيار في هذا الحكم هو الإنسان. وهنا شمولية الفضائل بشمولية وكلية الإنسان. والأساس في المنظومة هو الأخلاق والفضيلة، وهو مفهوم واسع وشامل، ومن هنا التقابل بين السلطة والحكم كحالة كلية شاملة غير قابلة للتجزئة. وهنا لا يمكن التعامل مع الإنسان فى جانب دون جانب او مكون دون مكون، والإنسان مفهوم ينطبق على الرجل والمرأة وله وحدانية المعنى. والإنسان ليس مجرد جسد ورغبات فطرية غريزية بل هو روح وعقل وفكر ولسان وعين يرى بها، وعقيدة ودين. ومعادلة أنسنة الحكم هى الاستجابة لهذه الكلية الإنسانية، ومفادها أن الحكم أساساً وحتى الدين هو من أجل الإنسان والرقي به، والسمو بفكره وإعماره. الهدف من الإنسان هو الإعمار والإبداع والإنتاج، والهدف من الحكم هو أيضاً توفير البيئة الحاضنة والداعمة للقدرات الإنسانية أن تنطلق وتعمر، وغير ذلك يكون الحكم قد انحرف عن الهدف منه. إن معيار الحكم الإنساني والدولة الإنسانية هو بدرجة قربه من هذه المقومات والمكونات الإنسانية. والدولة الإنسانية هي نقيض للدولة المستبدة، الأولى لها فضائلها وسماتها أهمها: المساواة، العدالة والقضاء، الحقوق، المواطنة الواحدة، التكافل الاجتماعى، نبذ الكراهية والعنف، التسامح، الرعاية الإنسانية للمعوقين وكفالتهم، حرية المعتقد والفكر دون إساءة لإنسانية الآخرين، التوزيع العادل للثروة، محاربة الفقر، الرقي بالخدمات الإنسانية من صحة ومياه نظيفة وبيئة حاضنة وليست طاردة، ونبذ الحروب، والتخلص من أسلحة الدمار الشامل. وغير ذلك الكثير من القيم الإنسانية التى جاءت بها الأديان السماوية والشرائع الإنسانية وكتابات الفلاسفة والمفكرين. الدولة كمفهوم سياسي هي أعلى درجات التنظيم البشري، وتقوم على الهوية الوطنية الواحدة وهي فكرة مجردة قد يجسدها الحكم الذي لا يخرج عن آلية تنظيم، لأن الدولة وعبر أدائها للحكم هي من تملك مصادر الثروة والمال ووسائل الإكراه والقمع والمجسدة في السلاح، وهي كما وصفها هوبز وحش هائل، وهذا الوحش إذا ترك من دون قيد أو كابح سيزداد توغلا وتوحشا. وهي الحالة التى وصفها بحالة الحرب الدائمة، أي الدولة التي تنصهر فيها شخصية الإنسان او المحكوم في شخص الحاكم، و هنا فالإنسان غيرمعترف به، ويعامل كآلة صماء مجردة من أي حقوق. وإذا نظرنا للتاريخ البشري من هذه الزاوية نجده لا يخرج كثيرا عن الحروب التي شنتها بعض الدول بهدف التوسع والنفوذ والثروة، واستعباد الشعوب الأخرى. وقد اقترن بهذه الحروب الفكر الشمولي العنصري، والتفوق العرقي. تاريخ أوروبا لم يخرج عن هذا الصراع الذي أريقت فيه دماء كثيرة حتى تمكنت الدولة الإنسانية الديمقراطية من ترسيخ جذورها بمقومات كثيرة من أهمها النضج الإنساني، وتوفير القوانين القادرة على كبح جماح الدولة المستبدة، وتأكيد إنسانية الحكم. واليوم في الحالة العربية تتجدد هذه الصورة، ولا يخرج ما يجري عن هذا الصراع البشري بين الدولة الإنسانية والدولة المستبدة، بين طبائع الاستبداد التي التصقت ببعض أنظمة الحكم العربية على مدارعقود كثيرة حرم فيها الإنسان من أبسط حقوقه الإنسانية، وطبائع الفضيلة التى تعيد للحكم العربي روحه الإنسانية. هو صراع من أجل التخلص من مفهوم الدولة المستبدة والحاكم المستبد، في كل صوره الدينية والبشرية، فالحكم والدولة غايتهما المصلحة العامة أو الإنسان الذي من أجله نزلت الرسالات السماوية، ودونت الوثائق الدولية التى حمت حقوقه. إنه صراع سيبقى قائماً إلى أن تستقر الدولة الإنسانية وتختفي مقومات الدولة المستبدة، وتنتصر طبائع الفضيلة على طبائع الاستبداد. وهذا قد يحتاج لوقت وثمن كبير يدفعه إنسان هذه المنطقة. drnagish@gmail.com
مشاركة :