عزلة البشر وقراءات للمستقبل عبر خطايا الأمس

  • 9/9/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ليست دورات المهرجانات السينمائية، وبالذات مهرجان فينيسيا، إلاّ نتاجاً لحال الإنتاج السينمائي خلال العام، وعلى رُغم أن مديري المهرجانات الكبيرة لا يرغبون في حصر تظاهرتهم في موضوعات مُحدّدة، أو ربما محدودة، فإن طبيعة الإنتاج في سنة معينة قد تفرض عليهم (أو تُتيح لهم) فرصه إلقاء حزمة ضوء إضافية على عدد من قضايا الساعة. المدير الفني لمهرجان فينيسيا، ألبيرتو باربيرا، أكد بأنه لم يسعَ إلى صياغة برنامج بـ «ثيمات» محددة، إلاّ أن تكرّر بعض الموضوعات في اختياراته لأفلام المسابقة العشرين وبعض من افلام برنامج «آفاق» رسمت ملامح موضوعات سادت من دون غيرها، وإذا استثنينا «الموسيقى» التي تكررت في اكثر من فيلم كمفردة اساسية، بدءاً من فيلم الافتتاح «لا لا لاند» للكندي داميين شازيل فقد كانت «العزلة» و«الوحدة» و«انقطاع التواصل» بين البشر مفردات تكررت في غالب الأفلام. ما دلل على كونها قضية محسوسة، أو بالأحرى مُلحّة على ذهن كثير من المبدعين، وبصرف النظر عن أن تلك المفردات التي وردت في أفلام تدور أحداثها في الماضي أو في الحاضر، فإن حضورها، في زمان سيادة آليات التواصل الاجتماعي والاتصالات الفائقة السرعة، يؤكد بأن البشر الذين يعيشون في «القرية الصغيرة» كما يحلو للبعض تسمية العالم، إنّما هم أبعد عن بعضهم بأكثر ممّا كانوا عليه في ما مضي. وبصرف النظر عن أهمية وجودة الأفلام التي عُرضت في مسابقة المهرجان أو ضمن برنامج «آفاق»، فلم تكن حالات العزلة في أفلام مثل «نورٌ ما بين محيطين» لديريك سيانفرانس و«الوصول» لدينيس فيلنيف و«فرانتز» للفرنسي فرانسوا أوزون و«المسيح الأعمى» للتشيلي كريستوفر مورّاي، و«الجبل» للإيراني أمير نادري و«الشبكة» للكوري المتميّز كيم كي دوك، نتاجاً لحبس أو سجن بل نتيجة لواقع اجتماعي أو ضرورة حياتية، لكنها، أي العزلة تتحوّل إلى معطى دراماتيكي ينتهي في الغالب إلى مأساة.   مسابقة في منتصف الطريق على أنّ الأفلام العشرين التي عُرضت داخل المسابقة الرسمية للدورة الثالثة والسبعين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي التي ستُختتم مساء غد (السبت) لم يكن جميعها يستحق التنافس على الأسد الذهبي لأعرق مهرجان سينمائي، وينطبق ذلك على افلام حملت تواقيع مخرجين كبار ومؤسّسين، كما هي الحال بالنسبة إلى مخرجين في مقتبل مسارهم الإنجازي، فيما جاءت أعمال عدد آخر من المخرجين تأكيداً إضافياً على ضرورة وفاعلية القراءات البصرية والفكرية التي قدّموها في اعمالهم، ليس لذائقة المشاهد فحسب، بل ايضاً لرسم صورة الحاضر الذي نحيا في ظله. فهم، وبصرف النظرعن تقديم اعمال تروي احداثاً معاصرة او ما وقع في الماضي، ثبّتوا منطق تفاعلية الاحداث التاريخية وترابط ما حدث في الماضي مع ما يحدث اليوم وما قد يتمخّض عنه الغد. واحتل شريط «فرانتز» للفرنسي المتميّز فرانسوا أوزون موقع المقدّمة في هذا الإطار، ولا نستبعد ان ينال مساء غد أحدى اهم جوائز الدورة، لأهمية ما قدم سينمائياً وفكرياً. فكما قالها الإيطالي ناني موريتي قبل عامين في فيلمه «أمي»، أعاد فرانسوا أوزون مقولة أنّ «ما يوحّد أوروبا، هو جذرها الثقافي والفكري، وليس سياسيّوها أو بنوكها. فالأوائل، أي السياسيين، أدخلوا القارّة (والعالم معها) في حربين عالميتين، خلال قرن واحد، وفي حرب باردة استمرت لما يربو على نصف قرن، وتعود ملامحها الى الظهور مجدداً اليوم. أما الآخرون، أصحاب وأساطين البنوك، فقد أدخلوا القارّة العجوز، منذ ميلاد الاتحاد، في دهليز تغليب المال والاقتصاد على اي معطى آخر». صوٌر أوزون فيلمه بالأسود والأبيض إلاّ في مشهدين قصيرين يعود اللون المضيء خلالهما عندما يحضر الرسم وتُسمع الموسيقى، وأدار ممثليه باللغة الألمانية، بتطعيم بسيط بالفرنسية في بعض المشاهد. أنجز فرانسوا أوزون عملاً جميلاً، مصنوعاً بدقة الأساتذة وممثلين رائعين أُديروا في شكل متقن، ولا يُستبعد ان تحظى الألمانية الشابة باولا بير باهتمام خاص من لجنة التحكيم الدولية التـــي يترأسها المخرج السينمائي والمسرحي البريطاني سام مينديس، وهي حــقاً مـــنافسة للنــجمة الهوليوودية إيمّي آدامز التي تحضر المهرجان ببطولة فيلمين مهمّين في المهرجان «الوصول» لدينيس فيلنيف و«حيوانات ليليّة» للمخرج ومصمم الأزياء الشهير توم فورد، وكلتاهما تجدان منافسة مهمة وجــدّية مـــن جانب الممثلة الأسترالية الحسناء آليتشا فيكاندير التي تؤدي دور البطولة الى جــانب النجم مايكل فاسبيندر في فيلم «نور بين محيطين» وهو دور معقّد سواء على الصعيد الجسدي او على الصعيد النفسي، وقد أدّت الدور في شكل رائع. وأضافت الطبيعة التي سادت أجواء الفيلم إلى جمالها مسحة بهاء ضاهى بهاء الأصيل في الجزيرة النائية التي يقوم فيها الفنار الذي اختارت أن تعيش فيه برفقة زوجها توم «مايكل فاسبيندر» الذي أُرسل ليعمل حارساً لذلك الفنار.   خيبة أمل وبقدر ما اقنع فرانسوا أوزون وتوم فورد الكثيرين بأهمية ما قدّماه في هذا المهرجان، فإن أسماءً كبيرة مثل الألماني فيم فيندرس والمكسيكي آمات إيسكالانتي والفرنسي ستيفان بريزيه خلّفوا في حلق من كان يترقّب منهم الكثير مرارة كبيرة. ففيما أغرق أيسكالانتي شريطه بلحظات قاسية للغاية، تاه فيم فيندرس وستيفان بريزيه في خضم الحوار الطويل والبطيء، المؤدّى بإيقاع مملّ. فرصة مهمّة أضاعها المهرجانيون للاستمتاع بأعمال مخرجين كبار كان يُنتظر منهم الكثير. وبانتظار الأيام الأخيرة من الدورة الحالية من المهرجان لا يزال ثمة أمل بأن يُشكّل آندريه كونتشالوفسكي بجديده «بارادايس» وأمير كوستوريتسا «على درب التبّان» والإيطالي جوزيبّي بيتشوني بشريطه «هذه الأيام»، معادلاً موضوعياً يرفع من متوسّط المستوى للأفلام المعروضة في المسابقة الرسمية ببضع درجات، ويُنتظر أن يُعيد المخرج الإيطالي المتميّز جوزيبّي بيتشوني بعضاً من الألق الذي فقدته السينما الإيطالية في هذا الموسم، وهو ما اشتكى منه آلبيرتو باربيرا مؤكداً عسر اختيار الأعمال الإيطالية لمسابقته الرسمية وبأن «السينما الإيطالية وقعت في الآونة الأخيرة في شرك الكوميديا السهلة، ولم تتمكّن من الاستفادة من درس «الكوميديا الإيطالية» و«الواقعية الإيطالية الجديدة» التي مثّلت واجهة مهمة للسينما الإيطالية وحملت هذه السينما إلى العالمية».   أولى الجوائز لمخرج من أصل عربيّ كما هي العادة في المهرجانات الكبيرة فإن الأسبوع الثاني يحفل بجوائز البرامج الفرعية والجانبية في المهرجان، وعلى رُغم غيابها شبه المطلق عن دورة المهرجان الحاليّة، فقد حققت السينما العربية في الثلثاء الماضي خطوة مهمة عندما منحت لجنة تحكيم جائزة «ميغرآرتي» التي تُنّظمها وزارة الثقافة الإيطالية، جائزتها الأولى للشريط الوثائقي إلى فيلم «No Borders» للمخرج الإيطالي (عراقي الأصول) حيدر رشيد والذى أُنجز بتقنيات الواقع الافتراضي. ترأس لجنة التحكيم في هذه المسابقة المخرج الإيطالي (تركي الأصول) فيرزان أوزبيتيك وضمّت في صفوفها عمدة جزيرة «لامبيدوزا» الإيطالية، التي «اعتبرت هذا العمل بارقة مهمة للتأكيد على أن المهاجرين القادمين إلينا، أو أؤلئك الذين ولدوا في بلادنا، إنّما يحملون إلينا قيماً وطاقة جديدة». أما رئيس اللجنة فيرزان أوزبيتيك فقد أكّد دهشته إزاء الأعمال الـ ١٦ التي شاهدها برفقة لجنته وقال «إنجاز الأفلام القصيرة جهد شاق بالقياس مع الأفلام المتوسطة والطويلة، فلكي تروي حكاية في مساحة لا تزيد عن عشرين دقيقة ينبغي عليك امتلاك قدرة عالية على الاختزال والتكثيف» وأضاف: «لقد شاهدت الأفلام جميعها وكان كل واحد منها جميلاً في اختلافه وتميّزه عن الآخر، وكانت لهذه الأفلام طاقة إضافية قياساً إلى الأفلام التي نشاهدها خلال تظاهرات أخرى، فهي قادرة، ليس فقط على إثارة المشاعر، بل على جرّ انتباهك إلى الطرف الذي لم تنتبه إليه في ما مضى». وختم أوزبيتيك بقوله: «حاولت خلال المشاهدة التركيز على طرائق الإخراج، وعلى المشاعر والانفعالات التي تثيرها لدي الأفلام، بالذات في الروائي القصير، وكانت الانفعالات كثيرة، وما الجائزة التي منحناها مناصفة إلى فيلمين، إلاّ دليلاً على استحقاق هذه الأفلام أكثر من انتباه».

مشاركة :