الحب إذ لم يعد يصنع المعجزات

  • 9/16/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

طواه الزحام القاهري الذي لم يبق شيئًا مريحًا في شوارعها، فأصبح كوجبة سريعة لا مذاق لها، ولا اشتهاء، هذا تعريف مبسّط للحب، في مدينة لا تنبت الحب. (1) حمل الفتى العشريني لوحته إلى وسط القاهرة، تنهد، وجلس، تفضح عيناه ما يخفيه من لهفة أخاذة، بدا مرتبكًا يستعجل موعده، كطفل يضم إلى صدره ملابس العيد، وينتظر صباحه على عجل، كشف عن لوحته فإذا بوجه أنثى خاطفة يشع ضوءًا من نوع خاص، سألني عن رأيي: قلت ما هذا بشرًا، فأخبرني أنها تنتظر الآن، وأنه سيفاجئها بعد غياب استمر 12 عامًا أنها لا زالت مطبوعة في قلبه، لم يخفت بهاؤها، بفعل تتابع السنوات، مرت دقائق انتظاره، وهو يتنقل بين حكايات ما كان في لقائه الأول بالجامعة، والحكي يغير ملامح وجهه شيئًا فشيئًا، اكتملت حُمرة وجهه مع اقتراب موعده، فاستأذن، وانصرف. في الحب نفحةٌ روحانية يدركها مريدوه، يبقيها الشغف، ويصرفها السخف. (2) قف على حافة الانبهار، واترك فرصةً كافية للتأمل، فإن غواية القلب لاتعني بالضرورة رسوخ العاطفة.. وصلت الرسالة مشفوعة بنظرة خجلة من الفتاة الحسناء، سهم نافذ من عينيها أسقطه في أسر دائم، لم يبرحه خلال سنوات أمضاها في حضرة الغياب، تحلق حول ذكرياته، موسيقاه العاطفية التي تذكره بها، كتاباته العفوية التي تليق بجنون حب البدايات، رسائله التي طوت سني الوحدة الغابرة، ساعات يومه صار لها معنى، رغم صعوبة المهمة التي كلفته بها. ودّع الفتى مشقة بحثه عن أنثى تشبهها، أغلق قلبه على حلمه القادم من الشتات، واستعان بالقاعدة "الحب يصنع المعجزات"، أخلص بما يفرضه قرب الحبيبة، مثلما كان غيابها، وانطلق في طرق لم يقربها، واجه خطورتها منفردًا، على أمل حديث ليلي طويل يدفع عنه هموم سيره في اتجاهات لا يقوى عليها، ولا تتسق مع طبيعته المسالمة. الذي كان يخبرني طوال الوقت بأن الأنثى التي لا تعرف التضحية لا تحفظ الحب، صار يمارس أقصى درجات تضحية أملًا في إدراك الحب. (3) لكل مريد "رضوى"، بشرط أن يستقر إيمانهما على أن الحب هو الذي يجعلنا نبصر. يخبرني صديقي عن لقاءاتهما معًا، عن تعثر الكلمات على لسانه، سحر نظرتها الذي يزيده شوقًا إليها في حضورها، صمته الأبدي حيال رقتها المتناهية، وخجله الذي يحول بينه وبين البوح بما يضمره فؤاده، وكيف يأخذها إلى عالمه بحكايات الحب الأسطورية، ربما تدرك بذكائها مغزى عباراته. حدثها عن فتاة عشرينية تسلل الحب إلى قلبها أثناء صعودها سلم كلية الآداب، شغفتها قصيدة الفتى الفلسطيني حبًا وأدركت منذ يومها أن ليس كل منظوم شعرًا، وأن ثمة خيطاً رفيعاً بين المطبوع والمصنوع لا يستطيعه سوى أصحاب النفوس الشفافة، أخبرها بأن رضوى عاشور آمنت بمريد البرغوثي، اتساقًا مع إيمانه بقضيته، وأدركا معًا أن الحب ليس محض رفاهية عاطفية، وإنما رغبة مصحوبة بتضحية لأجل بقائه حيًا نابضًا، فأنتج الحب في تجربتهما، روائية تسري عباراتها كالندى على نفوس يابسة، وشاعرًا لم يزده النفي عن وطنه إلا حنينًا وإبداعًا استثنائيًا، وتبلورت حكايتهما كأسطورة عشق معاصرة، يستند إليها من يبحث عن مفهوم أكثر نضجًا للحب. ذات مساء قلت له: إن رضوى لم تسق خلف عاطفة عفوية وفقط، ثمة تكافؤ واضح بين روحين حالمين. ( 4) الأنثى التي تفرض نديتها في علاقة كهذه، ليس لديها ما تمنحه، فلا معجزة إطلاقًا في عاطفة قائمة على المبارزة والجدل. انطفأ بريق 12 عامًا في لحظة مواجهة، فالحب ليس مجرد عبارات براقة نتناقلها في دردشة افتراضية، أو مقاطع موسيقية تثير شوقًا لحظيًا، وليس إعجابًا منمقًا بصورة فاتنة على مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي سفهت من جلال العاطفة، وقيمتها، وخلقت نوعًا من الاستسهال الباهت لإقامة علاقات سطحية اتسعت بها مساحات المسخ العاطفي، وتشوّهت عبرها قيمة المعنى، وتحولت الكلمة ذات الحرفين إلى آلة عزف لـ"لحن" روتيني مملّ، فرّغ كل نبيل من مضمونه، وطغى به القبح على كل نقاء حياتي. (5) مضى زمن المعجزات، لأن بساطة الأشياء وعفويتها، تحطمت على صخرة التكلف والادعاء. (6) الحب كأحلامنا الصغيرة، حدد وجهته أولًا، حتى لا يضل طريق التحقق. أنهى صديقي مهمته وهو القابض على جمر مشاعره، يحترق بها وحده، ويستثقل إبداءها خشية أن تقابل بشفقة تزيد احتراقه، في لقائهما بدت الجريحة الحسناء ممتنة لاهتمامه، أخبرته بأنه ذلك الشخص النقي الذي أهدته السماء، إذ لم يطلب مقابلًا لعطائه، ولم يبخل يومًا ما بمغامرة غير مأمونة العواقب، إنقاذًا لها". طرأت جدلية الفارق بين العطاء اللامحدود، والحب، على لقائهما الأخير، وبرزت نديتها كأنثى آوت من قبل إلى احتوائه، ومعيته، دون أن تكلف نفسها قليلًا من التأمل في قلبٍ أسرف في إخلاصه، ولم يترك بابًا لحبها إلا طرقه بكل مفاهيم الحب، فأغلق الشاب قلبه مرة أخرى على حتمية الغياب، وهو الذي كان يتجهز لرسم خريطة ما بعد الارتباط، حيث لم يتوقع لحظة أن يتبدد أمل اللقاء، عند إتمام الوفاء. (7) لأن الحب قبضة روحية من أثر المنطق، فإنه لن يستقيم في مدينة آثرت مساحيق صورية أفسدت مضمون الحياة، على جوهر الحياة. للتواصل مع الكاتب على فيسبوك: abdelwahab.shaban ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :