البنى الأصولية في الإسلام والمسيحية

  • 9/17/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لا تزال ظاهرة الأصولية تسبّب الكثير من اللبس حتى لدى المنتمين إلى البيئات العلمية الأكاديمية. وفي اعتقادي أن هذا اللبس ناشئ في الأساس، ليس فقط من معنى الكلمة أو ماهيتها، وإنما أيضاً من مسيرة تشكُّلها وسيرورة اشتغالها في النَّص والوعي والتَّاريخ معاً. وبالتالي، يبدو لي أن الجدل حول ظاهرة الأصولية سيطول - بحكم ما سبق - ولن يكون بمقدور أحد ما أن يقول الكلمة الفصل في هذا السياق. يستتبع ما سبق الإقرار كذلك بضرورة بذل المزيد من الجهد والتحليل لإزالة هذا اللبس من جهة، وللتقدم خطوة أخرى نحو فهم الظاهرة بصورة أدق من جهة أخرى. فعلى رغم سيطرة هذا المفهوم على حيز كبير جداً من التداول الثقافي، بخاصة على المستوى الصحافي وفي الفضاء الإلكتروني، فإن ذلك لم يحل دون انتقال المفهوم من الوضوح الصارم إلى حد الغموض المربك في بيئتنا الثقافية العربية. ومن مظاهر ذلك الغموض الأكثر وضوحاً اتساع الجدل حول التسمية االصحيحة التي يتعين إطلاقها على ظاهرة الأصولية، وما يتبع ذلك من الكشف في كل تسمية عن خلفية فكرية محددة: ابتداء من مفهوم «الأصولية Integrisme»، ومروراً بمصطلح «الجذرية Fundamentalism»، وليس انتهاء بمفهوم «الإسلاموية Islamism»، إذ يرتبط كل تصور من التصورات السابقة بمجموعة من الإشكاليات المتعلقة به، خصوصاً حين تثار الأسباب الكثيرة التي تعيدنا في الغالب إلى تأكيد وجود سمة مميزة متضمنة في الإسلام ذاته، أو ما يُطلق عليها مكسيم رودنسون لفظة «Virus»، باعتبارها مسؤولة عن تولّد التعصب الديني! ويعد جيل كيبل من أول الباحثين الغربيين الذين لفتوا الانتباه إلى انتقال مصطلح الأصولية إلى العالم العربي من دون الأخذ في الاعتبار أنه ولد ونشأ أساساً في الغرب الكاثوليكي والبروتستاني، وذلك في كتابه عن الحركات الأصولية المعاصرة في الديانات السماوية الثلاث، مؤكّداً أن استخدامه على سبيل الاستعارة خارج العالم المسيحي لا يعني ضرورة أنه مفهوم عالمي، وأن إطلاق المصطلح على الحركات الدينية الإسلاموية قد أدى في نهاية الأمر إلى تشويه تلك الحركات واختزال مفهومها إلى مفهوم الأصولية لدى العالم المسيحي. وخروجاً من هذا الإشكال نذهب إلى القول: إن الإتيان على مصطلح «الأصولية» مجرداً من إضافة «الإسلاموية» لا يصلح لوصف الحركات الإسلامية المعاصرة على اختلاف تياراتها الفكرية وتباين نزعاتها العنفية. وهو ما يحل الإشكال الحاصل أيضاً على مستوى الجذر اللغوي للمفهوم في المعاجم العربية، إذ إن الأصل يقابل الفرع ولا يصح وصف الظاهرة الإسلاموية - وهي فرع - بالأصل فقط - الإسلام - تمييزاً لها عن الأصوليات الأخرى. وفي الأحوال كلها، فإن الحركات الأصولية كافة ربما تشترك في أمور ثلاثة هي: الشمولية، والنصوصية، والانحياز المطلق، أو بالأحرى دعوى امتلاك الحقيقة المطلقة. فالشمولية تعني أن جميع الأسئلة التي تفرضها الحياة الخاصة والعامة تجد في التعاليم الدينية أو الأسس الأيديولوجية إجابة شافية وافية لها. أما النصوصية، فتعني أن النصوص المقدسة يجب أن تؤخذ حرفياً، ومن دون الدخول في تأويل أو تفسير بما يتضمنه ذلك من استكشاف ملابسات أو طرح تساؤلات. ومن المعلوم أن ثمة مذهباً فقهياً كاملاً اسمه «المذهب الظاهري»، أسَّسه الفقيه أبو داود الظاهري، يقوم على التفسير الحرفي للآيات القرآنية والأحاديث النبوية وعدم القبول بتاتاً بإعمال الرأي فيها، إلى جانب رفض منطق التأويل الصوفي. وأخيراً يعني الانحياز الرفض المطلق لأي مساءلة نقدية لمنظومة المبادئ التي يعتقدها الأصولي، ونفي ما عداها كله. ولا شك في أن المسألة الأساسية التي يدور حولها النسق الظاهري، والتي تحكم خطابه وتحدد وجهته، إنما تتعلق بإقامة علوم الشرع، ومن بينها الفقه وأصوله، على القطع بدلاً من الظن، وعلى اليقين عوضاً عن التخمين، وذلك للحفاظ على هوية الشرع وعلى كماله، وحمايته من خطر الإضافات والزيادات، لا على المستوى الشرعي فحسب، وإنما على المستوى العقدي الكلامي أيضاً، حيث خطر التأويلات وتهديدها ممثلاً في الغنوص بشتى صوره وأشكاله. وبهذا المعنى، تلتقي الأصوليات المعروفة كافة - إسلامية كانت أو غير إسلامية - على فكرة أنّ النص المرجعي بالنسبة إلى كل واحدة منها يحتوي على مجموعة من الحقائق الحية الخالدة، والتي تعد صالحة بطبيعتها لكل زمان ومكان. وتبعاً لذلك أيضاً، فإن النزعة الأصولية حاضرة بلا انقطاع في البنى الأيديولوجية ذات النمط الكنسي - الديني، حتى ولو كانت علمانية، أي أن الأصولية الدينية تفرز المناخ الملائم لظهور أصولية مضادة لها ذات بنى علمانية. ولعل ذلك هو ما دفع مكسيم رودنسون لأن يطالب في كتابه «الإسلام سياسة وعقيدة» بـ «ضم التجمعات المبنية من هذا الصنف في مقولة واسعة واحدة هي الحركات الأيديولوجية التي تجمع الذين يؤمنون بالسماء والذين لا يؤمنون». ولتأكيد ذلك المعنى، سنأخذ مسألة رفض التعددية أنموذجاً. فقد شاع اتهام الإسلاموية الحركية بادعاء امتلاكها الحقيقة رغم أن غالبية الأيديولوجيات تدعي امتلاك الحقيقة أيضاً. فالأصولية الإسلامية إذا كانت تفزع الناس بسبب أشكالها الحادة، فهي ليست وحدها التي يفعل ذلك، فالأيديولوجيات التي قادت ملايين من البشر وأضاءت حياتهم، تبدو كأنها قد أخفقت. إن ما يهيمن في بعض الظروف، هو الحاجة إلى أيديولوجية على وجه الخصوص تعطي أملاً وآفاقاً للعمل الحماسي. وهنا أيضاً يقدم التداعي المفتوح ذو النمط الكنسي ذاته كبنية شمولية قادرة على تعبئة المناضلين مع صياغاتها الأيديولوجية المحددة في القمة، ورموزها وقادتها، وتصبح هذه الطريق جذابة بصورة خاصة للمنتمي المعبأ، عندما تشده المنظمة من الشك والحيرة في الحياة اليومية، وتقول له: ما الذي يجب أن يفكر فيه، وما الذي عليه أن يفعله، وكل هذا باعتباره مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمتابعة الأهداف النهائية - الأخروية. وفي المحصلة، يمكن القول: إذا كانت النزعة الأصولية حاضرة بلا انقطاع في كل البنى التي من هذا النمط، وإذا كانت حدة مظاهرها تتوقّف على الصدف إلى درجة كبيرة، خصوصاً في العالم الأدنى أو الخارجي عن الجماعة، فهناك إذاً شروط في البنية الأساسية في إمكانها تشجيع هذه التطورات، وأن تجعلها أكثر صعوبة أو أن تكبحها. ولا شك في أن التصور العام لعلاقة الدين بالسياسة - كاتهام توصم به الإسلاموية من جانب الدارسين الغربيين - قائم أساساً على مفهوم الدين الكنسي المسيحي وليس على مفهوم الدين الإسلامي نفسه، والذي - وفق الأصولية - يقضي بترابط الأمرين معاً بحيث لا يتم فهم أحدهما من دون الآخر! مما يعتبره البعض فهماً مغلوطاً ومؤدلجاً لطبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام. ولعل ذلك هو ما عبر عنه رودنسون بالقول: «إن العامل الأساسي الذي يشجع إلى الأصولية السياسية في الإسلام هو دستور جماعة المؤمنين بسبب الشروط التاريخية لتشكُّلها الأولي في بنية سياسية - دينية. ويتبين الفرق هنا بين الإسلام والمسيحية التي خلقت دائماً - بفضل ظروف أخرى تتعلق بالأصل - بنًى مزدوجة. فجماعة المؤمنين لا تملك من حيث المبدأ دعوة سياسية بالمعنى الخالص للكلمة. فمملكة المسيح ليست من هذا العالم، ويجب أن نعيد إلى قيصر ما لقيصر، وأن نرد إلى الله ما لله. أما في الإسلام، فإن العودة إلى المنابع عودة إلى ظروف أسبغت عليها مسحة أكثر أسطورية بعد الهجرة، حين كان النبي رئيساً لجماعة المؤمنين التي اكتسبت في الوقت ذاته مظاهر دولة في تشكُّلها. ولا ريب في أن ذلك ساهم في تقوية الشعور بالانتماء إلى جماعة مترابطة، أكثر مما هو في المسيحية، ومعبأة في السراء والضراء ضد الخارج المعادي، أكثر مما هي تجمُّع موحد في سبيل الصلاة والبحث الدؤوب عن وجه الله، كما في الآية القرآنية: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ * فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ * إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

مشاركة :