ما هي الإيفانجيليكيّة المسيحيّة؟ أو ... جدل الأصوليّة والإيفانجيليكيّة

  • 4/5/2014
  • 00:00
  • 20
  • 0
  • 0
news-picture

مجرد ذكر المرء اصطلاح «الإيفانجيليكية»، على الأقل في الولايات المتحدة الأميركية، فإن ذلك يعني تلقائياً الحديث عن اصطلاح «الأصولية». ليس الفصل بينهما بالأمر السهل. فثمة ترابط بينهما، ليس على المستوى اللاهوتي والتشريعي فحسب، بل كذلك على المستوى الثقافي والاجتماعي، صعوداً إلى المستوى السياسي، حيث يتجلى في هذا المستوى تعقّد ظاهرة الدين والسياسة داخل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة. وبالأخذ في الاعتبار القاعدة الدينية العريضة للإيفانجيليكية في الولايات المتحدة، فإنّ أهم تساؤل يمكن أن يطرح هو ما يتعلق بالنشاط الأصولي الديني وتأثير ذلك في صنع القرار السياسي. ذلك أنّ المؤشرات هائلة في ما يخص كثافة القواعد الشعبية الإيفانجيليكية. وفقاً لتقرير طويل نشره مركز «بيو فورُم» لدراسة الدين والحياة العامة عام 2011، فإنّ نسبة الإيفانجيليكيين في أميركا بلغت 28.9 في المئة من مسيحيي أميركا، أي ما يعادل 91.76 مليون من الشعب الأميركي (قرابة ثلث الشعب الأميركي). وهذه النسبة في عدد الإيفانجيليكيين تمثل النسبة الأعلى منذ بدايات ظهور الإيفانجيليكية في العالم البروتستانتي الأنغلو - ساكسوني. إنها نسبة كبيرة جداً في الواقع، لا تعبر عن قوة الإحياء الديني وكثافته فحسب، بل كذلك عن تعقد المجرى الثقافي والسياسي الذي ينشط به هذا الإحياء في الولايات المتحدة. نحاول هنا سريعاً في هذه العجالة إلقاء الضوء على هذه النقطة، خصوصاً حول جدل الأصوليّة مع الإيفانجيليكيّة. ليس هناك إلى هذه اللحظة اتفاق نقدي حول ما الذي يعنيه تداخل اصطلاح الإيفانجيليكية مع الأصولية. وربما يعود هذا بالدرجة الأولى إلى عدم الاتفاق أساساً حول مفهوم الإيفانجيليكية نفسه والسياق الديني الذي خرج منه. يقول باحثون إنّ أصول اصطلاح «الإيفانجيليكية Evangelicalism»، اشتقاقياً، يعود إلى الإغريقية (evangelion من الخير وangelion الرسالة)، لتغدو اللفظة تعني «الرسالة الخيرة» أو «الإنجيل»، ومن ثم لاحقاً العهد الجديد كله بما فيه الأناجيل. وكانت سنة 1531 هي الأولى التي يُستخدم فيها الاصطلاح بواسطة الإصلاحي البروتستانتي ويليام تيندل W. Tyndale، وهو الرجل المتأثر بمارتن لوثر والذي اشتهر بترجمته الكتاب المقدس إلى الإنكليزية. وبالتالي، إنّ المسيحي الذي ينادي بـ «إحياء» رسالة يسوع، رسالة الخير، حرفياً فهو بالضرورة إيفانجيليكي، لدرجة أنّ مارتن لوثر كان لا يميز البروتستانتي عن الكاثوليكي، إلا من خلال انطباق الإيفانجيليكية على البروتستانتي. بيد أنّ هذا المعنى المقدم يقترب بجوهره مما تفيد به اصطلاحات مسيحية مثل «الأصولية» (الذي لم يعد يقتصر على الدين المسيحي)، وهو الاصطلاح الذي تم استيلاده في أوائل القرن العشرين بواسطة بروتستانت رداً على الظواهر الحداثية التي نزعت السحر عن العالم، خصوصاً حينما تلقّب إحيائيون مسيحيون باصطلاح الأصولية، وذلك من خلال تطبيقه على أنفسهم، وألفوا عملهم الشهير الضخم «الأصول» (1910 - 1915) بغية الدعوة إلى «إحياء» أصول المسيحية. لكن، هل هذا يعني أنّ ما بين الاصطلاحين ترادفاً؟ هناك عدد غفير من النقاد من يذهب بهذا، وذلك بسبب التقاطعات ليست الثانوية، بل الجوهرانية بين ما تنادي به الأصولية وبين ما تنادي به الإيفانجيليكية، خصوصاً في شأن عصمة الكتاب المقدس والخلاص وموت يسوع على الصليب وبعثه... إلخ، هذا فضلاً عن السمات العامة التي تطبعهما كليهما مثل: الهداية، حيث الدعوة إلى تغيير نواحي الحياة كلها، والكتابية، حيث الإصرار على شرعية ومرجعية الكتاب المقدس... إلخ. لكن، إذا كانت هناك صعوبة في الفصل بينهما، فإنّ ذلك لا يعني أنّ ثمة ترادفاً بينهما. إنّ تدقيقاً بسيطاً في الاستحقاقات السياسية والثقافية لسياق الاصطلاحين وفي كيفية استخدامهما، لا يفيد بأنهما مترادفان، بمقدار ما يفيد بأنّ اصطلاح الأصولية نفسه ليس سوى انشقاق الجزء عن الكل، الأصولية عن الإيفانجيليكية. وربما من المهم هنا التشديد على نقطة في غاية الأهمية: كلا الاصطلاحين، الأصولية والإيفانجيليكية، قد خرج من بيئة مسيحية «بروتستانتية»، لكنّ لكليهما مساراً مختلفاً في الشأن الثقافي الذي طبق به وتفاعل معه. هكذا، فإذا كانت الأصولية المسيحية قد بقيت مقتصرة على «أقلية طهرانية» قد خرجت من عباءة البروتستانتية، فإنّ هذا ليس حاله مع الإيفانجيليكية التي أصبحت لاحقاً بمثابة الطابع الإحيائي الذي يسم البروتستانتية ككل. الإيفانجيليكية، بالمعنى الدقيق للعبارة، أصبحت في القرن العشرين «فضاء ثقافياً دينياً» واسعاً في العالم البروتستانتي الذي يمكن أن تنبثق منه في أي لحظة حركات أصولية، وربما حركات ثقافية كما حدث على مدار القرن العشرين. وليس أدل على هذا الانشقاقات الكبرى التي حدثت داخل الإيفانجيليكية والتي لم يكن، ولن يكون آخرها، «ما بعد الإيفانجيليكية» أو «الإيفانجيليكية الليبرالية»... إلخ. من هنا، ربما من الأخطاء الكبرى أن نعتبر الإيفانجيليكية بأنها مجرد حركة «مسوّرة» من بين حركات مسيحية متعددة. إنها أبعد من ذلك: إنها فضاء ثقافي - ديني فرض نفسه على جزء واسع من العالم الغربي، واستطاع، في شكل أو في آخر، التعلمن مع المحيطات الثقافية التي كانت الحداثة تفرضها، هذا بعكس الأصولية، كحركة، والتي اقتصرت على ثلة أو أقليات دينية (حال يشبه إلى حدّ ما الأقلية «السلفية» حينما تنشق عن فضاء أصولي واسع). إنه من شدة تفاعل الإيفانجيليكية مع الثقافة ولتعذر فصلها عنها، فإنه ربما يصح القول إنها أصبحت هي «الثقافة» التي غدت من أهم ما يميز صوغ سياسة الولايات المتحدة الأميركية، حتى وصلت إلى القول إنّ أميركا هي «أمة» مسيحية، قوميتها إيفانجيليكية! تلك الدرجة الشديدة من التداخل بين الإيفانجيليكية والثقافة هي ما يفسر أنّ معظم الكنائس الأفريقية وأصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة هم من الإيفانجيليكيين، على رغم أنّ الإيفانجيليكية ليس ثقافة أقليات، وعلى رغم أنها كانت تقتصر على العالم الأنغلو - ساكسوني من ذوي البشرة البيضاء. ولأنّ ثقافة الإيفانجيليكية ليست ثقافة أقليات، فإنه يمكن اعتبارها كذلك بمثابة الجسر الثقافي الذي استطاع أن يُخرج الأقليات الأفريقية من عزلتها وكانتوناتها المشهورة إلى الفضاء الأميركي الواسع. بارك أوباما نفسه، وبعيداً من مذهبيته الدينية، فإنه لكي يبعد عنه الشبهة التي لاحقته بما يخص ديانته، فإنه لطالما كان يقر بمبادئ الإيفانجيليكية. إنه سؤال صعب كيف استطاعت الإيفانجيليكية فرض نفسها على العالم الأميركي، لا بل والأهم كيفية التشابك مع الثقافة لتعرف نفسها بها، وهو الأمر الذي مهد لها الطريق تالياً في السبعينات للتشابك مع الفضاء العام واستحقاقاته. لا نستغرب والحال هذه، أن تخرج من هذا الفضاء حركات أصولية استطاعت، بواسطة الثقافة، اقتحام المجال العام. من هنا، يمكن أن نقرأ الدلالات المهمة، من خلال، مثلاً، الأخذ في الاعتبار الصعود المسيحي الأصولي واقتحامه هذا المجال (ليس بداية من المدرسة وشؤون التعليم وليس انتهاء بمجرى الانتخابات الرئاسية)، وكم غدت الإيفانجيليكية رصيداً مسيحياً قوياً لدرجة سيطرته على ثلث القواعد الشعبية من الولايات المتحدة الأميركية. إنّ التشديد على عدم ترادف الاصطلاحين، لا يعني أبداً نفي الطابع الأصولي عن الإيفانجيليكية بجوهرها التأسيسي، بمقدار ما نبغي التشديد على أنها ليست حركة أصولية مثل الحركات الأصولية الأخرى التي عبرت عنها أقليات أصولية مسيحية: الإيفانجيليكية، وبكلمة، هي «بارادايم ثقافي - ديني» كبير يحوي كثيراً من التوجهات، بارادايم قابل في أي لحظة لأنْ ينتج حركات أصولية يمكنها أن تسيطر على الشأن السياسي.     * كاتب سوري الإيفانجيليكيّة المسيحيّة

مشاركة :