التقى الرئيس الأميركي في 4 أيلول (سبتمبر) الجاري نظيره التركي رجب طيب اردوغان على هامش قمة العشرين، في مدينة هانغتشو شرق الصين، وحظي اللقاء بأهمية خاصة كونه الأول بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف تموز (يوليو) الماضي فضلاً عن تزامنه مع عملية درع الفرات التي شنتها فصائل للمعارضة السورية بمعاونة الجيش التركي وغطاء جوي للتحالف الدولي شمال سورية، بهدف إبعاد تنظيم «داعش» والوحدات الكردية عن المنطقة الحدودية مع سورية. ورغم أن عملية «درع الفرات» أسست لمرحلة جديدة في العلاقة بين أنقرة وواشنطن في سورية، وأعطت دفعة جديدة لبرامج التعاون مع واشنطن المتشككة في جدوى التعاون مع فصائل المعارضة المدعومة من أنقرة، إلا أن لقاء الرئيسين حمل دلالة على تقارب نوعي بين أنقرة وواشنطن، حيث تعهد أوباما التزام بلاده جلب منفذي المحاولة الانقلابية في تركيا، وقال: «سنضمن أن تتم مقاضاة الأشخاص الذين قاموا بهذه الأعمال». والأرجح أن ثمة أسباباً أدت إلى تراجع العلاقة بين البلدين، أولها تصاعد الانتقادات الأميركية لملف الحريات وحقوق الإنسان والقمع الممنهج في تركيا فضلاً عن إدانة تقرير الخارجية الأميركية الصادر في نيسان (أبريل) الماضي نظام الحكم بقمع الصحافة وحرية التعبير وملاحقة الصحافيين والمواطنين العاديين واستخدام العنف المفرط ضد الأكراد. وزاد القلق مع توجه أنقرة في العام 2013 إلى مفاوضات مع شركة «سبميك» الصينية لاستيراد نظام دفاع «F D – 200» الصاروخي، وهو ما آثار امتعاض واشنطن التي تفرض عقوبات على هذه الشركة لخرقها قانون حظر انتشار الأسلحة بالنسبة الى إيران وكوريا الشمالية وسورية. ويرتبط السبب الثاني بالمواقف الضعيفة لإدارة أوباما تجاه الانقلاب التركي الفاشل. ويبدو أن زيارة جون بايدن أنقرة ومن قبلها جون دانفورد رئيس الأركان الأميركي في آب (أغسطس) الماضي وتوصيف الأول الانقلاب «بالعمل الجبان»، لم تفلح في تسكين أوجاع الأزمة مع تركيا، خصوصاً أن السفارة الأميركية في أنقرة فور وقوع الانقلاب، أصدرت بياناً رسمياً وصف ما يجري بأنه «انتفاضة uprising» يقودها أفراد من الجيش التركي، وهو ما فُهم على أنه دعم وقبول بالانقلاب. وراء ذلك ترفض الولايات المتحدة طلباً تركياً ملحاً ومتكرراً بتسليم فتح الله غولن زعيم حركة «خدمة»، والذي يتهمه أردوغان بتنفيذ محاولة الانقلاب، والمقيم في ولاية بنسلفانيا منذ العام 1999. وعلى رغم الاتفاقية الموقعة في العام 1979 بين البلدين – اتفاقية تسليم المجرمين والمساعدة القانونية في الجرائم الجنائية -، ورؤية أنقرة شقاً جنائياً في إدانة غولن، تعتقد واشنطن أن غولن «متهم سياسي»، ولا يجوز تسليمه وفقاً لنص المادة الثالثة من الاتفاقية التي لا تجيز تسليم المطلوبين بين البلدين بسبب آرائهم السياسية أو بسبب ارتكابهم جريمة سياسية أو عسكرية بحتة! ويرتبط السبب الرابع بتصاعد منحنى القلق بين أردوغان وأوباما بتوسيع تركيا نطاق عمليات «درع الفرات» في الشمال السوري، والتي أسفرت عن سيطرة فصائل الجيش الحر المدعوم من الجيش التركي على عشرات القرى والبلدات بين جرابلس وحلب. والأرجح أن ثمة قلقاً أميركياً من توغل تركي لا يستهدف تنظيم «داعش»، قدر ما يسعى إلى قضم جذور الأكراد غرب الفرات، وبرز ذلك في صعود وتيرة الاشتباكات المسلحة بين الفصائل المدعومة بالدبابات التركية من طرف، وقوات سورية الديموقراطية من طرف آخر في ريف جرابلس الجنوبي. كما أن ثمة مخاوف لدى إدارة أوباما أن تنجر قوات التحالف الدولي التي تعزز القوات التركية جواً إلى حرب مباشرة مع قوات الأسد. ولا تقتصر المخاوف الأميركية على ما سبق، فثمة قلق من توسع جغرافي تركي على الأرض السورية مع اتجاه أنقرة لحشد المزيد من قواتها، والمرشحة أن تصل من 450 جندياً إلى نحو 15 ألف جندي، بينما ما زالت دمشق تكتفي بإدانة توغل تركيا في أراضيها لطرد «داعش» والأكراد من ريف حلب، مع الدعوة إلى التنسيق مع الحكومة السورية، وهو ما تعتبره واشنطن تقارباً بين الجانبين، بدأت ملامحه في التبلور مع أنباء عن تفاهمات تتضمن انطلاق قوافل الإغاثة من الحدود التركية إلى مناطق النظام في حلب، بجوار احتمال قيام وفد أمني سوري بزيارة أنقرة لبحث التعاون في محاربة «حزب العمال الكردستاني» وإحياء اتفاق أضنة الموقع في العام 1998. الأرجح أن السلوك التركي، واتهام وزير الخارجية التركي «وحدات حماية الشعب» الكردية بتنفيذ عمليات «تطهير عرقي وتوطين أنصارها» في شمال سورية، أثار قلقاً أميركياً من حدود وتداعيات «درع الفرات»، وهي العملية العسكرية الأكبر التي أطلقتها تركيا منذ بدء النزاع في سورية في آذار (مارس) 2011. واعتبرت وزارة الدفاع الأميركية، أن المواجهات بين تركيا والمقاتلين المدعومين من الأكراد في شمال سورية «غير مقبولة وتسبب قلقاً عميقاً»، داعية الأطراف المعنية إلى وقف القتال. والواقع أن ثمة دلالات إلى تقارب في العلاقة بين البلدين منها اللقاء الرئاسي على هامش قمة العشرين في الصين. والقناعة إدارة أوباما وحتى مرشحي الرئاسة – هيلاري أو ترامب - بأن تركيا دولة مفتاحية ونقطة استناد استراتيجية في تسوية النزاع السوري مروراً بحفظ التوازن السياسي في المنطقة، وأيضاً على صعيد مكافحة تنظيم «داعش». في المقابل فإن نجاح الإجراءات التي اتخذتها تركيا عشية الانقلاب وإعادة صياغة المشهد أمنياً بعد إقصاء عدد معتبر من الجنرالات وصل إلى نحو ثلث القيادة، فإن واشنطن باتت مقتنعة بأن المؤسسة العسكرية لم يعد ممكناً لها أن تتحكم بالدولة، حيث تشي الإجراءات التي تتخذها تركيا عشية الانقلاب الفاشل إلى تراجع دور الجيش بعد عزل واعتقال قطاع معتبر من قياداته، وصدور مراسيم قانونية ربطت قيادة الأركان وأجهزة الاستخبارات بالرئاسة في مقابل منح وزير الدفاع حق تعيين قيادات قوات البر والبحر والجو، وهو ما يعني تراجع الدور السياسي للجيش لمصلحة الطابع المهني. وترتبــــط الدلالة الأخـيرة بحرص أميركي على إصلاح العلاقة مع أنقرة الحليف التقليدي، والعضو الأطلسي. وكان بارزاً، هنا، توكيد نائب الرئيس الأميركي عشية زيارته أنقرة أن واشنطن أبلغت الأكراد – الشركاء الأساسيين في الحرب على داعش - بعدم العبور إلى غرب الفرات، كما وعد أوباما عشية قمة العشرين في الصين بمحاسبة المسؤولين عن انقلاب تركيا. على صعيد ذي شأن فإن الظروف والتفاهمات التركية الجديدة التي كشفتها زيارات المسؤولين الأميركيين لأنقرة، جعلت واشنطن أكثر إدراكاً بخطأ الأكراد حينما تجاوزوا غرب الفرات لربط المناطق الكردية، وجعلتها أكثر اقتناعاً بضغوط اللاجئين على كاهل أنقرة. لذا فإن قبول عملية «درع الفرات»، وتصريحات واشنطن اللطيفة تجاه تركيا، وعدم الرفض صراحة للمنطقة الآمنة التي تسعى تركيا إلى فرضها واقعياً من دون الإعلان عنها، يكشف عن تقارب تركي - أميركي لا تخطئه عين. * كاتب مصري
مشاركة :