أسئلة كثيرة وعميقة أثارتها زيارة رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم بغداد في 5 كانون الثاني (يناير) الجاري، ومن قبل تهنئة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 30 كانون الأول (ديسمبر) الماضي رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بانتصارات العراق في الموصل. وفي اتصاله قال الرئيس التركي: «نتطلع إلى نصر عراقي قريب جداً في الموصل وستكون رسالة لمن يريد استهداف العلاقات الأخوية بين البلدين»، مؤكداً أهمية الاستمرار بمكافحة المنظمات الإرهابية في العراق وسورية عبر التكاتف والتعاون. وتسعى تركيا إلى ترطيب أجواء العلاقة مع بغداد، وهي التي دخلت مرحلة الشحن عشية الرفض القاطع لحكومة بغداد أي دور تركي في معركة الموصل التي انطلقت في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ورؤية أنقرة بحتمية المشاركة، إضافة إلى الاحتجاج العراقي على انتهاك السيادة الوطنية بمرابطة القوات التركية على الأراضي العراقية. وتصاعد التوتر بين بغداد وأنقرة إثر مصادقة البرلمان التركي على تمديد تفويض قرار حكومي يجيز للقوات التركية شن عمليات عسكرية في سورية والعراق مدة عام. وردَّ مجلس النواب العراقي على قرار البرلمان التركي باعتبار وجود القوات التركية التي تنتشر في معسكر بعشيقة قرب الموصل قوات محتلة معادية وطالبتها بالانسحاب مهددة باللجوء إلى مجلس الأمن. وتتواجد تركيا عسكرياً في العراق منذ العام 1994 بموافقة حكومات البعث زمن صدام حسين لمطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا إرهابياً، ناهيك عن المساهمة في فك النزاع الداخلي الكردي- الكردي الذي حصل بين «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني و«الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة جلال طالباني في الفترة من 1994 وحتى العام 1998. وحصلت القوات التركية على موافقة برلمان إقليم كردستان بعد إسقاط نظام صدام حسين في العام 2003، بهدف إضفاء شرعية قانونية وسياسية على الوجود التركي في العراق. كما تحضر تركيا استخبارياً منذ الثمانينات ومطلع التسعينات، عبر بعض التنظيمات التركمانية (الجبهة التركمانية) التي تتبع الاستخبارات التركية في شكل مباشر. ويقدّر حجم القوات التركية في كردستان العراق ومناطق أخرى داخل البلاد بحوالى 3000 جندي، وفقاً الى تقرير للبرلمان العراقي عام 2007. أما قاعدة بعشيقة شمال شرق الموصل، والتي تأسست في آذار (مارس) 2015، فتتباين التقديرات حولها بين 200 جندي و1200 جندي. والأرجح أن ثمة عوامل تدفع تركيا في الوقت الراهن إلى تجاوز حال القطيعة مع العراق، أولها نجاح القوات العراقية منذ بدء عملية تحرير الموصل من تنظيم «داعش» بمعاونة القوات الأميركية في السيطرة على أجزاء واسعة من المدينة، في أكبر عملية برية في العراق منذ الغزو الأميركي في العام 2003. وتراجعت فاعلية تنظيم «داعش» ضد القوات العراقية في شرق الموصل، مع بدء نفاد ما لديه من موارد مع دخول الهجوم شهره الثالث. وفي نهاية كانون الأول الماضي بدأت القوات العراقية المقدرة بنحو 100 ألف مقاتل المرحلة الثانية لمعركة تحرير الموصل التي تضم نحو 1.2 مليون نسمة، وأدت إلى طرد التنظيم من مناطق أخرى في شرق المدينة، على رغم مقاومة «داعش» الشرسة. ويرتبط العامل الثاني بمسألة الأمن القومي، حيث تجمع الدولتين حدودٌ مشتركة بنحو 350 كيلومتراً، وهو ما يفرض التنسيق الاستخباري والأمني في مكافحة الإرهاب. كما تبدو ثمة حاجة لتعضيد التعاون الاقتصادي بينهما، ففي الوقت الذي تمثل أنقرة منفذاً مهماً لمرور البترول العراقي عبر خطوطها إلى الأسواق العالمية، تعد بغداد سوقاً رابحة للصادرات التركية فضلاً عن مشاركة عدد معتبر من الشركات التركية في عملية إعادة الأعمار والتشييد في العراق. خلف ما سبق كشفت زيارات متبادلة بين البلدين بعيداً من الإعلام تفاهمات كبيرة حول نقاط جوهرية منها الاتفاق على جدول زمني للانسحاب التركي من العراق فضلاً عن رفض حكومة بغداد وجود حزب العمال الكردستاني على أراضيها. في سياق متصل أدت التحولات الإقليمية، واستدارة أنقرة تجاه محور روسيا – إيران في الأزمة السورية، وتراجعها عن خيار إسقاط الأسد بجانب الانخراط مع موسكو في عملية تسوية سياسية للأزمة السورية مقرر بدئها منتصف كانون الثاني الجاري في آستانة، كل ذلك ولد قناعة لدى تركيا بضرورة تطبيع العلاقة مع بغداد أو على الأقل إزالة الجليد وفض الاشتباك الذي ما زال العنوان الأبرز. وراء ذلك، يرتبط الطرفان باتفاقية خاصة للتعاون الاستراتيجي، وعقدا أول اجتماع لمجلس التعاون الاستراتيجي التركي- العراقي في بغداد عام 2009 بينما انعقد الاجتماع الثاني في أنقرة عام 2014. ويعود العامل الخامس إلى حرص تركيا على إقناع بغداد بضرورة عدم مشاركة قوات «الحشد الشعبي» في تحرير مدن نينوى ذات الغالبية السنّية، ومنطقة تلعفر ذات الغالبية التركمانية. وثمة مخاوف تركية من أن يؤدي التغاضي عن مشاركة قوات الحشد الشعبي الشيعية، إلى تصاعد رقعة الصراع الطائفي، بعدما ظهرت ملامحه في عمليات القمع وتفجير منازل الأهالي السنة، وتهجير قسري للعرب السنة في محيط الموصل، إضافة إلى مسعى الحشد لدخول منطقة تلعفر التي تربطها علاقات تاريخية وثقافية بتركيا. على صعيد ذي شأن، تسعى أنقرة إلى موازنة الدور الإيراني في العراق بعد مأسسة نفوذها، وكان بارزاً، هنا، تمرير البرلمان العراقي في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي قانون «الحشد الشعبي». وبموجب هذا القانون تعتبر فصائل وتشكيلات «الحشد الشعبي» التي يشرف عليها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسمي سليماني، كيانات قانونية تتمتع بالحقوق وتلتزم بالواجبات باعتبارها قوة رديفة وساندة للقوات الأمنية، ولها الحق في الحفاظ على هويتها وخصوصيتها. ويرتبط العامل السادس بانخراط تركيا في التقارب مع بغداد، بتراجع حضور حلفاء أنقرة التقليديين في العراق سواء سياسياً أو عسكرياً ملموساً، وفي الصدارة «الحزب الإسلامي» وقوات الحشد الوطني التي يقودها أثيل النجيفي مقابل تنامي نفوذ «الحشد الشعبي» إقليمياً، والتي تعتبرها تركيا ميليشيات عابرة للحدود تخوض حروباً بالوكالة لمصلحة طهران ناهيك عن مساهمتها في تصاعد الطائفية في المنطقة. لذا تجد أنقرة نفسها مدفوعة إلى التقارب مع حكومة العبادي التي باتت تمسك بمفاصل المشهد العراقي بفضل دعم طهران، بينما لم يعد لحلفاء أنقرة السنّة من دور مؤثر ولا كافٍ في ضمان حضور تركيا وتأمين مصالحها في شمال العراق. القصد أن زيارة يلدرم بغداد قد تحدث نقلة نوعية، وتساهم في حلحلة الأزمة بين البلدين، لكن تظل فرص إحداث تطبيع كامل محدودة، لا سيما بعد مهاجمة ائتلاف «دولة القانون» برئاسة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي يطالب أنقرة بـ «سحب قواتها من العراق أولاً»، فضلاً عن سيطرة إيران منافس تركيا الإقليمي على القرار السياسي في بغداد، وصعود عناصر الحشد الشعبي التي باتت تمارس دوراً عسكرياً وسياسياً أحادياً بعيداً من السلطة المركزية، في مقابل تهميش العناصر السنّية الموالية لتركيا، وهو ما يمثل صداعاً وقلقاً لأنقرة التي تعاني أزمة مركبة داخلياً وخارجياً. * كاتب مصري
مشاركة :