مازال مجتمع الاتصال يعبر منعطفاً خطيراً متأرجحاً بين الثوابت والمتغيرات، في منطقة هلامية ضبابية الرؤية. وعادة ما تكون مثل هذه البيئة مناسبة ومحفزة لمن يريد أن يختطف وعي المجتمعات ويصادر هوياتها ويوجهها لتحقيق مآرب شخصية أو مصالح أمم أخرى. وكثيرون قد يضعون مثل هذا الطرح في دائرة المؤامرة، لكنه ببساطة ليس كذلك فالحقيقة الثابتة أن هناك تدافعاً وصراعاً لتقاسم النفوذ، وقد دخلت - منذ هذا الانفجار في تقنية الاتصال- عقولُ الناس ومشاعرهم بورصة المزايدات وكل يرى أنها غنيمة ثمينة يقتنصها بأية طريقة يراها مناسبة. الأمر ليس استمراء لاجترار حديث المؤامرة، ولكنه واقع معاش شئنا أم أبينا. صحيفة سعودية تنشر صورة لفتاة تبتلع فرامة اللحوم يدها في منظر يتفطر له القلب وتدمى له المشاعر، والصحيفة بذلك تجردت من كل مقومات العمل الأخلاقي ومراعاة المشاعر الإنسانية، هكذا يرى البعض تلك الصورة وقرار نشرها. وقد تجادل الصحيفة بما تراه تبريراً للنشر. وفي حالة أخرى يبث فيديو لجثة مواطن مغدور وهو مضرج بدمائه، في مشهد أكثر إيلاماً شاهده حوالي 8 ملايين شخص حتى الآن، دون مراعاة لحرمة الميت، أو مشاعر ذويه، ناهيك عن تسريب محاضر التحقيق عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الظواهر الاجتماعية التي تصدمنا بها وسائل التواصل الاجتماعي بين الفينة والأخرى، تعكس الخلل الذي يتهدد قيم مجتمعاتنا ويمسخ سلوكياتنا من المحددات الدينية والأخلاقية التي يجب أن تبقى راسخة في عقولنا ووجداننا. ما يترآى لي وأنا أراقب مجتمعاً يحدث بعضه عن خطر الكذب ويكذب في حديثه، ويرفع الشعارات المنادية بالعدل، ويظلم في ممارساته، ويعظم من مصطلح الفساد وتصويره على أنه خطر محدق يتهدد مجتمعنا وهو أول الفاسدين، ويحذر من الانهيار الأخلاقي وهو يدفع باتجاهه بتصرفاته، إلى غير ذلك من التناقضات التي نعيشها وأسماها زميلنا الدكتور عمار بكار بنظرية الرجل الثالث. كل منا يلوم شخصاً ثالثاً ويسقط عليه ما يعاني منه لكنه لا يجرؤ على مواجهة هذا الثالث في ذاته. هذا المرض العضال الذي يجتاح مجتمعنا السعودي والمجتمعات العربية يقابله في دول أخرى كاليابان وكوريا وسنغافورة وغيرها تمسك وتكتل شعبي في مواجهة استهداف قيم ومبادئ المجتمعات الراسخة. فهم يقاومون خطر العولمة بالتمسك بعاداتهم وتقاليدهم، إذ ما يزال الرجل الياباني يخلع حذاءه عند مدخل بيته، ويسود في كوريا نظام الأخ الأكبر ويزدهر حين تجد كل التبجيل للكبير في عمره أو موقعه الرسمي أو الاجتماعي، وتظهر تلك المجتمعات شراسة كبيرة في الدفاع عن لغاتها القومية في وجه هيمنة الإنجليزية، ويصل البعض لأضعف الإيمان وهو الإنكار بالقلب إضافة إلى تقديرهم لأية خطوة من طرف آخر لتعلم لغاتهم ومخاطبتهم بها. بينما يجوز لبعضنا أن يتهكم إذا وجد أجنبياً يجتهد في مخاطبته بالعربية، وسرعان ما يهون عليه الموقف ويتحدث معه بالإنجليزية على ضعفهما فيها. الركون إلى العامل الديني لم يعد بتلك الفاعلية خاصة والمجتمع يفقد الثقة في بعض رموز الدعوة بسبب طغيان المصالح الشخصية وتورط البعض في أعمال منافية لما ينادون به، والقصص كثيرة عن الرقاة وتوزيع هدايا الأطياب على جميلات الفضائيات، والسرقات الأدبية، وغيرها من الممارسات التي أضعفت الثقة في من كانوا ملء السمع والبصر. وأمام هذا الوهن والتراجع والذوبان وتحول وجودنا إلى هشيم تذروه الرياح لابد من حلول. وأية مقاربة في هذا السياق تتطلب جهداً جماعياً علمياً وإرادة سياسية وقناعة شعبية واعترافاً بالمشكلة ومن ثم البحث لها عن مخارج. ونتائج أية حلول مقترحة لا يمكن أن تؤتي ثمارها في يوم أو يومين، وإنما بعد عقدين أو ثلاثة. التعليم والإعلام والمسجد والأسرة لابد أن تعمل بشكل تكاملي لإعادة المجتمعات إلى رشدها قبل فوات الأوان، ذلك أن استمرار هدر الوقت، والتعويل على الزمن أنه قادر على عقلنة المجتمع وإعادته لجادة الصواب هو رهان غير مضمون العواقب، وقد يؤدي إلى اقتلاع وجودنا كشعب وأمة لها خصائصها وخصوصيتها من جذورها. وأول ما يمكن البدء به هو التشريعات والأنظمة التي تحافظ على ما بقي من الممارسات الإيجابية. فلو كان الشخص الذي أمر بنشر الصورة المشار إليها آنفاً سوف يجد عقاباً رادعاً ويفقد وظيفته بسبب عدوانه على ذوق المتلقي ومشاعره فإنه لم يكن ليتخد ذلك القرار. ولو كان الشخص أو الأشخاص الذين سربوا محاضر تحقيق وصور وفيديو فاجعة المهدية بالرياض يدركون صرامة العقاب الذي ينتظرهم لفكروا كثيراً قبل ارتكاب ما فعلوه.
مشاركة :