ترتكز روسيا في مقاربتها للمسألة الأوكرانية إلى حسابات جيوسياسية، تتصل بمستقبل دورها الدولي، ومكانتها كقوة كبرى. وهي تمتلك عدداً كبيراً من أوراق الضغط السياسي والاقتصادي، التي تجعل من تحوّل أوكرانيا إلى قوة مناوئة أمراً لا يُمكن تصوّره، أو على الأقل تصعب إدامته. ومن هذه الأوراق، الغاز الطبيعي الذي يصعب تعويضه من مكان آخر، والتبادل التجاري الكبير، والعمالة الأوكرانية في روسيا، وقضية الحدود الإقليمية، وملكية شبه جزيرة القرم، والكتلة السكانية الناطقة بالروسية، التي تهيمن على المناطق الشرقية والجنوبية. يُمكن القول إن أوراق روسيا في أوكرانيا كثيرة ومتشعبة. بيد أن الصورة المقابلة تتمثل في حقيقة أن انضمام هذه الأخيرة إلى التحالف الغربي، والتحاقها يوما بالاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يُغيّر على نحو نهائي وجه الدولة الأوكرانية في الصورة المقابلة، فإن التحاق أوكرانيا بالغرب وانضمامها للاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يحدث تحوّلاً جيوسياسياً بالغاً في أوروبا، يتوّج التحولات الكبرى التي بدأت بعد سقوط جدار برلين. على صعيد البعد الروسي في المسألة الأوكرانية، تتمثل أولى أوراق الروس في اعتماد أوكرانيا على الغاز المستورد من روسيا أو عبر أراضيها. وتستورد أوكرانيا حوالي 147 ألف برميل من النفط يومياً، كما تبلغ وارداتها من الغاز الطبيعي 36.4 مليار متر مكعب. وهي تُعد من كبار مستوردي الغاز في العالم، إذ تحتل المرتبة 12 عالمياً على هذا الصعيد، بعد الصين (42.5 مليار متر مكعب)، وقبل إسبانيا (35.9 مليار متر مكعب). وتأتي غالبية إمدادات الغاز إلى أوكرانيا من دول آسيا الوسطى، لكن الجانب الأوكراني يحصل عليه من شركة "غازبروم" الروسية، لأن الأنابيب التي يضخ عبرها الغاز مملوكة لهذه الشركة، ومن هنا يعتبر غازاً روسياً. وكانت روسيا وأوكرانيا قد وقعتا في 19 كانون الثاني يناير 2009 اتفاقيتين رئيسيتين: تتعلق الأولى ببيع الغاز الروسي لأوكرانيا، خلال الفترة بين 2009 و2019. وترتبط الثانية بالرسم المستحق على الغاز الروسي المار عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا. وقد حصلت كييف على تخفيض نسبته 30% على السعر الذي تستورده من روسيا، شريطة أن لا يقل هذا السعر في وقت من الأوقات عن 100 دولار لكل ألف متر مكعب. على صعيد قضية الحدود الروسية الأوكرانية، دفعت مواقف أوكرانيا من حرب القوقاز عام 2008 باتجاه إعادة السجال حول مصير هذه الحدود، وسادت حينها مخاوف من أن تنهي روسيا اعترافها بالحدود القائمة، ذات المعالم غير النهائية، وغير المرسمة حتى اليوم. ولدى أوكرانيا حدود طولها 4566 كيلومتراً، أكبرها مع روسيا، بواقع 1576 كيلومتراً. كما تمتد سواحلها على طول 2782 كيلومتراً. وتقع هذه السواحل على البحر الأسود وبحر آزوف. وكان الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يوشينكو قد كلف، في غمرة صراعه مع الروس، أجهزة الدولة باتخاذ الخطوات الكفيلة بإضفاء الصيغة التعاقدية الدولية على الحدود البحرية مع روسيا، في البحرين الأسود وآزوف ومضيق كيرتش الذي يربط بينهما، علماً بأن كلاً من بحر آزوف ومضيق كيرتش يعتبر حوضاً مائياً داخلياً، يقع داخل أوكرانيا وروسيا، وذلك طبقاً لاتفاقية عام 2003 بين الدولتين. في موقف مقابل، ذهب بعض الروس إلى القول بأن أخذ أوكرانيا بعيداً عن الفضاء الروسي سوف يسهم في تعزيز نفوذ من يطالبون في موسكو بدعم خيار تقسيم أوكرانيا. وتعود أصول نحو 45% من الأوكرانيين إلى روسيا. وهناك تشابهات عدة بين واقع الشرق الأوكراني والواقع القائم في روسيا البيضاء، التي تستمد من ماضيها مع سائر الروس (سكان أوكرانيا وروسيا) انتماءها إلى الدائرة الثقافية السلافية البيزنطية. وتعتبر أوكرانيا دولة شقيقة لروسيا بالمعيارين العرقي والمذهبي. وقد ظلت على مدى قرون ركناً أساسياً في القوة السلافية الأرثوذوكسية. وكانت مندمجة في روسيا منذ القرن السابع عشر للميلاد. وفي خطوة عنت أوكرانيا بالدرجة الأولى، وافق مجلس الدوما الروسي قبل سنوات على تعديل قانون الجنسية الروسية، من أجل تسهيل منحها للروس المقيمين في بقية الدول السوفياتية السابقة. ولم يشترط القانون المعدل اجتياز امتحان اللغة، ولا الإقامة في روسيا مدة خمسة أعوام، كما كان متبعاً في القانون الأصلي. كذلك، قدم عدد من أعضاء مجلس الدوما اقتراحاً للرئيس الروسي، بعيد حرب عام 2008، يدعو إلى استعادة شبه جزيرة القرم، التي نقلها خروتشوف في العام 1954 من السيادة الروسية إلى الأوكرانية. وتعتبر شبه جزيرة القرم ذات مكانة خاصة في الحسابات الروسية، إن بالمعايير الأمنية أو التاريخية والثقافية. وقد وقعت روسيا وأوكرانيا، في 21 نيسان أبريل 2010، اتفاقية خاصة بتمديد فترة مرابطة أسطول البحر الأسود الروسي في مدينة سيفاستوبول، في شبه جزيرة القرم بعد العام 2017. ونصت الاتفاقية على تمديد بقاء الأسطول 25 عاماً إضافية، مع إمكانية إضافة خمس سنوات أخرى. وأعلنت روسيا صراحة عن وجود ربط مباشر بين اتفاقية التمديد واتفاقيات الغاز التي عقدتها مع أوكرانيا، وباتت تحصل بموجبها على تخفيضات في سعر الغاز الروسي بمقدار 100 دولار، من سعر البيع الأصلي، البالغ 330 دولاراً لكل ألف متر مكعب. وكانت مدينة سيفاستوبول قد شيدت في العام 1783 كقاعدة للأسطول الروسي في البحر الأسود. وكان هذا الأسطول، الذي تم بعثه في عهد الاتحاد السوفياتي مع حلول العام 1941، يمتلك 47 غواصة و85 قارباً حاملاً للطوربيدات و845 طائرة و40 سفينة حربية. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، جرى تقاسم الأسطول بين روسيا وأوكرانيا، التي أصبحت سيفاستوبول في أراضيها. وحصل الروس على ما نسبته 81.7 % من الأسطول، مقابل 18.3% للأوكرانيين. وكانت أوكرانيا، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تمثل القوة النووية العسكرية الثالثة في العالم، بما تملكه من 1300 رأس نووي. وكان ذلك قبل التوصل في العام 1996 إلى اتفاق مع واشنطن وموسكو ينص على نقل هذه الأسلحة إلى روسيا وتفكيكها. وعندها لم تعد أوكرانيا في عديد "النادي النووي". كذلك، تخلصت أوكرانيا بحلول شباط فبراير من العام 2001 من آخر قاذفاتها الاستراتيجية من نوع توبوليف – 160. وهي كانت قد ورثت أسطولاً من 44 قاذفة استراتيجية، بينها 19 قاذفة من نوع توبوليف 160 و25 من نوع توبوليف 95 قادرة على حمل صواريخ نووية. ودون مزيد من التفصيل، يُمكن القول إن أوراق روسيا في أوكرانيا كثيرة ومتشعبة. بيد أن الصورة المقابلة تتمثل في حقيقة أن انضمام هذه الأخيرة إلى التحالف الغربي، والتحاقها يوما بالاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يُغيّر على نحو نهائي وجه الدولة الأوكرانية، ويحدث تحولاً جيوسياسياً تاريخياً وكبيراً في المشهد الأوروبي. إن الغرب لم يتخل منذ استقلال البلاد عن الاتحاد السوفياتي في العام 1991، عن رهانه على أوكرانيا أطلسية، تربط شرق أوروبا بالقوقاز وآسيا الوسطى، وتكون همزة وصل بين البحر الأسود وبحر قزوين، وممراً للنفط والغاز القادم من الشرق. ووصلت رهانات الغرب ذروتها مع قيام "الثورة البرتقالية"، في العام 2004، التي كان الابتعاد عن روسيا شعاراً محورياً فيها. وفي مقاربتهم لقضية انضمامها لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، سعى الروس لتذكير الغرب بأن أوكرانيا السلافية كانت مندمجة في روسيا منذ القرن السابع عشر، ولهذا لا يمكن أن يتصورها الرأي العام الروسي عضواً في حلف غربي. وقال معلقون روس إنه إذا كان انضمام دول البلطيق إلى الناتو قد أثار بالأمس اهتمام السياسيين بالدرجة الأولى، وليس الشعب الروسي، فإن أوكرانيا مسألة أخرى. وتنص "معاهدة الصداقة والتعاون والشراكة" الموقعة بين روسيا وأوكرانيا، في العام 1997، على ضرورة امتناع أي طرف عن المشاركة في أعمال من شأنها الإضرار بأمن الطرف الآخر ومصالحه القومية. وقد رأى الروس أنه في حال انضمام أوكرانيا للناتو فمن المشكوك فيه أن يقبل الحلف ببقاء حدودها الشرقية دون أسلاك شائكة وحراسة مدججة بأنواع الأسلحة، في حين أن إقامة ذلك على أرض كانت، ولا تزال، تخلو من أية حدود فاصلة بالمعنى المتعارف عليه من شأنه أن يجعل كل قطعة من الأرض موضع نزاع، ويجعل من كل قرية مخفراً حدودياً. وهناك في موسكو من يعتقد أن ضم أوكرانيا للناتو يأتي في إطار استراتيجية الولايات المتحدة الخاصة "بالردع الوقائي" لروسيا، وهي استراتيجية سوف يخصص لتكامل أوكرانيا في الناتو دوراً رئيسياً فيها. ويرى الروس أيضاً أنه قد تظهر في أوكرانيا قواعد للناتو، أو يجعل منها منطقة لمواقع المنظومة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ. ومما زاد من مخاوف روسيا حصول الولايات المتحدة على قواعد عسكرية في بلغاريا ورومانيا، الأمر الذي يعني أن الناتو بصدد "إقفال" البحر الأسود في وجه القوة الروسية، عبر بلغاريا ورومانيا، فضلاً عن تركيا الأطلسية. وإذا ما انضمت أوكرانيا للحلف، فسوف يبدو ذلك حقيقة راسخة. كذلك، فإن احتياطيات بحر قزوين يُمكن أن تقع تحت سيطرة حلف الأطلسي، كون البحر الأسود يمثل ممراً هاماً لنقل نفط قزوين إلى أوروبا. وبعد تفكك الدولة السوفياتية، سعى حلف الناتو إلى تكثيف حضوره العسكري في البحر الأسود، ودخلته تسع من سفنه في العام 1991. وأبقى الحلف تالياً على نحو 20 سفينة حربية في هذا البحر بصفة دائمة. وهناك ست دول تمتلك شواطئ على البحر الأسود، وهي: بلغاريا، رومانيا، أوكرانيا، روسيا، جورجيا وتركيا. كما تعتبر مولدافيا من دول البحر الأسود، وكذلك أرمينيا وأذربيجان. وإن الرهان الغربي على أوكرانيا اليوم هو رهان جيوسياسي على إعادة رسم خارطة أوروبا والشرق الأوسط معاً، وذلك بلحاظ أن ضرب القوة الروسية في البحر الأسود يعني في التحليل المباشر أيضاً محاصرة دورها في البحر الأبيض المتوسط.
مشاركة :