العلاقة بين دلالتي (الإبداع) و(التعليم) متباعدة، فالإبداع هو الإتيان بشيء على غير مثال سابق، أما (التعليم) فهو نقل مجموعة من الخبرات والمهارات الموجودة مسبقًا. فهل يُمكن تعليم الإبداع؟ وإن تم تطويع أدوات الإبداع الكتابي وتلقينها للمتعلمين هل سينتج عن هذا التعلم إبداع حقيقي، أم أعمال مُقلدة سجينة للقوالب وفاقدة لصوتها الخاص. المبدعون أنفسهم لا يستطيعون تقديم تشريح دقيق للإبداع، في شهاداتهم يكتبون عن تجاربهم الخاصة والمكونات التي رفدتهم والحيل التي ابتكروها للاستمرار. يكتبون عن مخاتلة الإلهام وجدوى الدأب والمثابرة شهادات إبداعية وسير ذاتية وتجارب ثرية تقول الكثير عن الكتابة، لكن ماذا عن فقر الكتابة؟ ما الذي يُمكن أن يقوله المبدع عن غياب الإلهام، غياب الفكرة، غياب القُدرة مكسيم غوركي في شهادته (كيف تعلمتُ الكتابة) يُلامس مشكلة نضوب الموضوع/ نضوب الكتابة من خلال رسالتين متعارضتين: الأولى من قارئة صغيرة تعتقد أنها تحظى بالموهبة، لكنّ واقعها فقير وشاق، خالٍ من التجارب، فماذا يُمكن أن تكتب وهي تعيش الفقر المدقع؟ يجيب غوركي باستدعاء الثراء الأدبي الذي تركته الشعوب البدائية البسيطة التي لم تُنتج أدبًا مكتوبًا لكنها أغنت حيواتها الفقيرة بالأغاني والحكايات والأساطير. الرسالة الثانية من شاب عامل يكتب شاكيًا من الحياة، ليس من فقرها، بل من غناها بالتجارب والمواقف، هذا الثراء المحيّر الذي يتطلب قدرة على الخلق والانتقاء يقول غوركي مجيبًا على هذه الرسالة التي تتقاطع مع تجربته الكتابية: لأنه تكوّنت لديّ انطباعات كثيرة، لم استطع إلا أن أكتب فتجربته الأدبية تقول إنّ شح الحياة وثراءها لا يتحكمان في عطاء المبدع. امبرتو إيكو يرفض الاحتكام إلى الإلهام، يقول إنها كلمة سيئة، قد تمنح 10% أمّا الـ90% المتبقية فمصدرها الجهد الفردي. ويتفق معه أورهان باموك الذي يُلخص تجربته قائلًا: إنّ سر الكتابة ليس في الإلهام الذي لا يعرف أحد من أين يُمكن أن يأتي، بل في العناد والصبر، التعبير التركي الجميل: (أن تحفر بئرًا بإبرة). ماركيز الكاتب المثابر عانى أيضا من فترات التذبذب، كتب ملاحظات كثيرة جدًا عن الفترة التي قضاها في برشلونة وأراد نشرها قصصًا قصيرة، لكنه ألقى بها للنسيان. بعد ربع قرن أراد صياغتها فلم يجد المخطوط، وإعادة كتابة مخطوط مفقود اعتمادًا على الذاكرة قد تكون أصعب من الشروع في عمل جديد، لكن الكاتب العنيد وصف حالته تلك قائلًا إنها كانت (قضية شرف) فبدأ في استعادتها بجهد من الذاكرة. يعرف ماركيز علة النضوب، ويعالجها بالدأب، يقول: أفقد مرونة الكتابة في الاستراحة بين كتابين، وأجد مشقة أكبر فأكبر في البدء من جديد. ولهذا فرضتُ على نفسي مهمة كتابة مقالة صحفية أسبوعية كنظام انضباطي للحفاظ على سخونة يدي. نعم، ربما يستعصي تعليم الإبداع، لكن علاج الركود لا يستعصي على المبدعين. فإن كانت تفاصيل الطريق غامضة، فخبرات الذين تجاوزوه قابلة للتعليم.
مشاركة :