لنتفق أولا إذا ما كانت المجتمعات العربيّة والإسلاميّة هي بالفعل في حاجة عاجلة ومستعجلة إلى التحرر وإعادة بناء رأسمال ثقافي أكثر اعتبارا للإنسان ولحريته. فدون هذا الاتفاق، لا معنى لما يمكن أن نسترسل فيه تحليلا لفكرتنا. إذ إن مجتمعاتنا بشكل عام لم تعرف بعدُ معركة مع الحرية. هناك بعض جولات بسيطة هنا وهناك لا أكثر ولا أقل وهو ما يفسر النتائج المحبطة في هذه المعركة. ربما نستطيع أن نتحدث عن ذوات بعينها، خاضت المعركة وقطعت فيها شوطا، ولكن من الصعب جدا التحدث بثقة عن خوض مجتمعي لمعركة حرية الذات العربية وإنتاجها لأنموذج ثقافي متجدّد، يُراعي التغير الاجتماعي الحاصل منذ أن بدأت رياح الحداثة تهب مع حملة نابليون بونابرت على مصر. قد يتعجل البعض مناقشة فكرتنا قبل الفراغ من تقديمها قائلا: أليست معارك التحرير الوطني ضد الاستعمار جزءا كبيرا من معركة الحرية التي نتحدث عنها؟ وإجابتنا واضحة جدا: تندرج هذه المعركة ضمن نضال التحرر من الآخر المستعمر، وهي حسب تقديرنا ورغم أهميتها، فإنّها لا شيء يُذكر أمام معركة تحرر الذات نفسها. دون أن ننسى أن الصدمة، التي أحدثها الاستعمار لشعوبنا قد فعلت فعلها في خصوص بداية مساءلة الذات وحثها للدفاع عن مقومات هويتها من جهة والانفتاح على الآخر ثقافيا من جهة ثانية وهنا نشير إلى جهود كل من المفكرين الطهطاوي وعبده والأفغاني والطاهر بن عاشور ومحمد إقبال وخير الدين باشا وغيرهم من خلال دعواتهم إلى الأخذ عن الآخر. بيت القصيد: تعاني الذات العربيّة من فقر مدقع في مجال الحرية. هي ليست حرّة بالشكل الذي يجعلها قادرة على الإبداع وتحقيق التقدم المطلوب والمشاركة في إبداع شعوب العالم المتقدم. ذلك أنّه دون الحريّة لن يبدع العقل ودون نقد الموروث لن نتقدم قيد أنملة ودون تحرير الكائن العربي جسدا وروحا وعقلا لن نظفر بشعوب مقبلة على الحياة والعمل والإنجاز. إن مجتمعاتنا تعيش في سجن ثقافي. وكل من يتقدم محاولا هدمه فإنّه يلجم. ويبدو لي أن ما نتباهى به من خطوات في مجال المشاركة السياسية وتلك الاتفاقات الخاصة بحقوق الإنسان التي تتسابق دولنا على الإمضاء عليها تلميعا للصورة هي من قشور الحرية ومتمماتها وأبعد ما تكون عن جوهرها. فلا معنى للظاهر من الأفعال الحرة إذا كانت مفقودة في تفاصيل الحياة اليومية والخاصة لأفراد مجتمعاتنا. فالحرية نستشعرُها في علاقتنا بأنفسنا وإلى أي مدى نحن في سلوكنا مخلصون لانتظاراتنا ولما نُحبّ. وفي الحقيقة من يتأمل هذه التفاصيل، يجد أننا في حالة تبعيّة وهيمنة من الماضي والقيم الثقافية الموغلة في المحافظة التي تنتصر لسلطة الجماعة والمؤسسات على حساب الفرد. من هذا المنطلق، فإن أطروحتنا في هذه الورقة تقوم على فكرة أن مجتمعاتنا لن تتحرر دون أن تضطلع المرأة بجولة رئيسية من أجل الحرية. فالمرأة هي إحدى أهم معضلات تعطل معركة الحريّة. ذلك أن مجتمعاتنا تئن من وجع المرأة. وهو وجع لم يحسم بعد. بل إن التنظيمات الدوغمائية المتطرفة، إنّما تتحرك من أجل إقفال أبواب تحرير المرأة وهي في عمق مشروعها مثقلة بالاحتجاج ضد ما بدأت تعرفه المرأة من تحرر ومساواة وتراجع في حجم التمايز بينها والرجل. لذلك، فإن دخول المرأة العربيّة ساحة الوغى لا مفر منه. ودخولها يجب ألا يكون مشتتا وقائما على مبادرات فرديّة، بل من المهم تأمينا للنجاعة أن يتأكد الوعي لدى النّساء العربيات بكونهن في مهمة خاصة وأنه مطلوب منهن تحرير الرجل العربي من عقدة المرأة. طبعا هذه المعركة ليست زيارة إلى صالون تجميل وكوافير.. إنّها معركة تستوجب قوة خاصة. فأخطر المعارك تلك التي نخوضها ضد العقلية وضد ثقافة متوارثة وتتمسك بالتمثلات السلبية والمحدودة للمرأة. لنضع في بالنا أن معركة المرأة من أجل الحرية تضاعف من حيث القسوة والشدّة معركة الرجل. ذلك أن الرجل يتدثر بثقافة تبوئه مكانة الأقوى والأقدر، إضافة إلى تسامحها معه في حين أن هذه الثقافة هي محاكة ضد قياس المرأة لغة وفكرا ورواية للواقع والأحداث وغير ذلك. إني أرى الرجل العربي اليوم كمن يستغيث بالمرأة كي تأخذ بيده وتساعده على تذليل صعوبات فك شفرات الذات وشفرات العلاقة بين الجنسين في الفضاء الثقافي العربي الإسلامي. لم يبخل الكثير من الرجال الرموز في كسر قيود المرأة. وقد حان الوقت لترفع عن ظهر الرجال أكياسا من أعباء القيم الثقافية التي تعرقل التقدم، وتعطل العلاقة بالحياة والجمال وبما يُقربنا من خالق هذا الوجود قربا يقوم على المحبة واليسر والخير.
مشاركة :